في نضال مثل النضال الوطني الفلسطيني، الذي لم يحقق أهدافه بعد، نتيجة لطبيعة الصراع المعقدة والمختلفة عن أي صراع آخر، قد تتآكل الذاكرة الجماعية حتى بخصوص محطات نضالية كانت مشرقة في وقتها وقادت إلى تحولات مهمة. وهذا قد يأخذنا إلى سؤال إذا ما كان الجيل الفلسطيني الحالي يدرك مدى أهمية ورمزية معركة الكرامة التي تعتبر في نظر كثيرين أنها بمثابة إنطلاقة ثانية للثورة الفلسطينية؟ لذلك تأتي أهمية الحديث عن هذه المحطات للأجيال، ليس فقط من زاوية المعرفة وتحصين الذاكرة الجماعية، وإنما أيضًا لمنح الأمل بإمكانية هزيمة هذا العدو المتغطرس، والمعتمد على دعم غير محدود من دول كبرى عديدة.


أهمية معركة الكرامة التي امتدت بشكل ملحمي طوال نهار 21 آذار/ مارس العام 1968، أنها أول انتصار عسكري تكتيكي على جيش الاحتلال الإسرائيلي، في لحظة تاريخية فلسطينية وعربية حالكة الظلمة بعد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران/ يونيو العام 1967، انتصار صنعته مجموعة فدائية فلسطينية تعد بالعشرات قررت الصمود ومواجهة الآلة العسكرية المتوحشة الإسرائيلية. الانتصار ما كان يحدث بهذه الطريقة الواضحة لولا الإسناد القوي الذي تلقاه هؤلاء الفدائيون القابضون على الجمر في المواجهة الميدانية المباشرة غير المتكافئة إطلاقًا من أشقائهم في الجيش العربي الأردني، الذين تدخلوا بمدافعهم ودباباتهم لصد العدوان.


فالعبرة والدرس المباشر هو إرادة الصمود وقرار المواجهة جيش الاحتلال، الذي أصبح يوصف بعد حرب حزيران بأنه "الجيش الذي لا يقهر"، هذه الإرادة لم تأت من فراغ بل من تلك الروح الثورية التي زرعتها الثورة الفلسطينية المسلحة في ذلك الجيل الفلسطيني، ولعل هذه الروح مستمدة من مقولة ياسر عرفات الشهيرة، عندما قيل له بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 لقد هزمنا بهزيمة الأمة العربية. فرد أبو عمار "نحن لم نهزم هم هزموا" ويقصد الأنظمة العربية. العبرة الثانية هي أن التلاحم الفلسطيني الأردني في المعركة يمكن أن يصنع الفارق ويأتي بالنصر، معركة الكرامة قدمت نموذجًا حيًا وملموسًا صنعه تلاحم الجيش الأردني مع أشقائه الفدائيين الفلسطينيين، ورغم التفوق العسكري الكاسح لجيش الاحتلال الإسرائيلي إلا أن وحدة المواجهة حققت النصر.


ما قد لا يدركه الجيل الفلسطيني الحالي، هو التحول التاريخي المهم الذي تحقق في أحد جوانبه بفضل النصر الذي حققه الفدائيون في بلدة الكرامة ذات البيوت الطينية البسيطة في غور الأردن. لقد قاد هذا النصر إلى تخليص منظمة التحرير الفلسطينية من قبضة الأنظمة العربية وخلصت القرار الوطني الفلسطيني من عهد الوصاية وهيمنة هذه الأنظمة عليه، الخطوة الأولى جاءت في تموز/ يوليو العام 1968، أي بعد معركة الكرامة بأشهر عندما عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورة استثنائية وقرر التخلص من هيمنة الأنظمة وأقر الميثاق الوطني، وتمت إعادة تشكيل المجلس لتكون الغلبة به لفصائل الثورة الفلسطينية المسلحة. أما الخطوة الثانية جاءت في مطلع عام 1969 عندما انتخب المجلس الوطني ياسر عرفات رئيسًا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقائدًا عامًا لقوات الثورة الفلسطينية. 


لقد شكلت معركة الكرامة نقطة مضيئة في تاريخ الكفاح الوطني الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، وربما هي من المحطات القليلة التي تم استثمار التضحيات ودماء الشهداء وتحويله إلى مكاسب سياسية ملموسة قادت إلى تغير المشهد  الوطني الفلسطيني برمته. وقد يسأل الجيل الحالي وبعد 55 عامًا من الكرامة لماذا لم تحقق الثورة الفلسطينية والكفاح الوطني الفلسطيني أهدافه حتى الآن؟ هذا السؤال في غاية الأهمية وهو يتطلب أن تعرف الأجيال تاريخها بما فيه من إيجابيات وسلبيات بشكل عميق، بالإضافة إلى مسؤولية النخب الفلسطينية في إجراء تقييم موضوعي لتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، من بداية الصراع، أي منذ ما قبل نكبة العام  1948 وما بعدها فلا يمكن أن نحمِّل مرحلة بعينها كل الإخفاقات أو كل المكاسب والإنجازات، إنه تاريخ متسلسل مترابط له ظروفه الموضوعية والذاتية، ولكن الأهم كيف نتعلم من أخطائنا ونشير إليها بشحاعة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من القضية الفلسطينية.

المصدر: الحياة الجديدة