المظاهرات المعارضة لحكومة نتنياهو اليمينية تتسع يومًا بعد يوم، وتنضم إليها فئات جديدة من المجتمع الإسرائيلي وتصبح أكثر إصرارًا، والمعارضة تضيق الخناق شيئًا فشيئًا على رقبة هذه الحكومة، كل ذلك يؤكد أن الأزمة أعمق من أن تحلها تسويات تقليدية أو صفقات كما كان يسود سابقا بين الأحزاب الإسرائيلية. الصراع يدور أساسًا حول سؤال أي إسرائيل نريد؟ وهو سؤال يخفي وراءه حقيقة أن الأسس التي قامت عليها إسرائيل منذ العام 1948، لم تعد تصلح، وإن هذه الدولة بالفعل على مفترق طرق، وقد تتحول الأزمة إلى مخاض عسير يمكن أن يحمل في ثناياه سناريوهات يصعب تخيلها في هذه المرحلة من الأزمة، وحتى هذا المخاض قد يفشل في إجراء التحولات المطلوبة لأن إسرائيل قامت ضمن تناقضات معقدة.
إلى جانب المبدأ الأساسي، بأن الديمقراطية لا تستقيم مع الاحتلال والعنصرية، فإن هناك تناقضات بنيوية عميقة من الصعب حلها، التناقض الأول يتعلق بالهوية المكونة لإسرائيل، فهل هي دولة قومية علمانية أم دولة دينية ؟ أم هي مزيج من الاثنتين؟ فالصهيونية، من الناحية الأيديولوجية، هي بحد ذاتها نتاج لحظة تاريخية أوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، التقت خلالها مجموعة تطورات، أبرزها بلوغ العلمانية ذروتها، مع ظهور الدولة القومية، ووصول التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريات الإمبريالية حافة الانفجار، وفي لحظة اشتد فيها اضطهاد اليهود في شرق أوروبا. التناقض الأعمق، أن الصهيونية قامت بتطويع الدين اليهودي ليتحول إلى هوية قومية علمانية، وعملت على تحويل عدة أعراق يجمعها الدين اليهودي إلى شعب وكأن له جذر عرقي واحد، وهي وصفة معقدة مليئة بالتناقضات.
كما حولت الصهيونية "أرض إسرائيل" من معناها التوراتي إلى وطن قومي، بل وحصرت ملكية الأرض بها باليهود، من منطلق أن الرب وهبها "لشعبه المختار". وفوق كل ذلك قامت الصهيونية بإسكات تاريخ الشعب الفلسطيني وأنكرت وجوده أولاً، وعندما فشلت رفضت الاعتراف بحقوقه، فصادرت ماضي فلسطين وشعبها لتسيطر على حاضرها وحاضره.
توليفة إسرائيل الصهيونية المعقدة وغير المنسجمة مع منطق الأمور تنفجر اليوم، فهناك طرف يريد تغليب الدين على القومي في الهوية الصهيونية، وهناك من يريد أن يبقي هذه الهوية قومية علمانية ليبرالية، وطرف ثالث هو ديني أرثوذكسي متشدد يريد تطبيق الشريعة اليهودية، وطرف رابع صغير الحجم يريد أن تتخلص إسرائيل من صهيونيتها الإمبريالية المعقدة وتتحول إلى دولة ديمقراطية بحق وحقيق. فالأزمة في واقع الأمر أعمق وأشمل من كونها صراعًا على استقلالية الجهاز القضائي من عدمه، بالرغم من أهمية هذه المسألة الحيوية بالنسبة للديمقراطية، وربما يجدر التذكير بأن إسرائيل دولة دون دستور، ليس فقط لطابعها التوسعي، وإنما نتيجة التناقضات الحادة بين مكونات هذه الدولة وصعوبة اتفاقها على الإطار المفاهيمي، أو مضمون الدولة والفلسفة القائمة عليها، لذلك تعيش إسرائيل على بديل قانوني مرن وهو مجموعة من القوانين الأساسية.
لا أحد يعرف حتى الآن كيف ستنتهي بالضبط هذه الأزمة العميقة والمعقدة الراهنة في إسرائيل، وفكرة إجراء صفقة، كما يحاول الرئيس الإسرائيلي هيرتسوغ، أصبحت أكثر صعوبة في ظل تعنت حكومة نتنياهو المتطرفة من جهة، ومع اتساع المظاهرات وشعور المعارضة أنها بدأت تنجح أكثر فأكثر في تجييش المجتمع لصالحها من جهة أخرى. فإسرائيل عليها أن تجيب على سؤال الاحتلال، وسؤال العنصرية، ولكن الأهم والأخطر هو سؤال الهوية أي إسرائيل نريد؟ الإجابة على سؤال الهوية قد يحتاج إلى ثورة عنيفه وليس لاحتجاحات، فقانون يهودية الدولة بنصه الراهن لم يجب على سؤال الهوية بالكامل بل عقد مشهد الدولة أكثر.
معضلة أخرى تواجه إسرائيل هي مشكلة أن تتحول إلى دولة فاشية، في حين أن أحد أسباب نشأتها أو أحد مبررات نشأتها هو اضهاد الفاشيين لليهود في أوروبا منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية العام 1945، وهو ما يضيف تناقضًا آخر لا يقل تعقيدًا عن التناقضات سابقة الذكر. إسرائيل الفاشية صحيح سيكون لها أصدقاء بين الفاشية والشعبوية المتصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أنها، أي إسرائيل، كانت جذابة عندما كانت تقدم نفسها للعالم بأنها دولة ديمقراطية ليبرالية.
ما يتعلق بنا كشعب فلسطيني، ونحن نراقب المشهد الإسرائيلي الحالي، فإن فشل الاحتجاحات سيؤثر علينا بشكل عميق، صحيح، وحتى الآن، لا أحد في إسرائيل حتى الآن يريد مغادرة مربع الصهيونية بمعنها العنصري التوسعي، ولكننا ننتظر ما ستؤول إليه الأزمة الداخلية في إسرائيل على أمل أن يكتشف الإسرائيليون أن نهجهم العنصري مع وجود الاحتلال قد نخرهم من الداخل وهم اليوم على مفترق طرق فعلي، فإما أن يتحولوا إلى دولة ديمقراطية حقيقية أو يبقوا غارقين في أيديولوجيا الماضي، وكلا النتيجتين ستؤثر علينا سلبًا أو إيجابًا.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها