بعد أربعين عاماً، خرج كريم يونس من الأسر. أربعون سنة أمضاها في السجون متنقلاً بين سجن وآخر ثمناً لحرية شعبه. مرت السنون ومر العذاب ومر الألم وظل الصبر هو الرفيق الوحيد في انتظار الحرية. فرحة منقوصة بعد رحيل والدته قبل حريته المنتظرة بأشهر. لم تستطع الانتظار أو أنها خافت أن يباغتها الموت من الفرحة إذا عانقته فعلاً فقررت ألا تفسد تلك اللحظة المشتهاة وأن ترحل مبكراً حتى يعتادوا على فراقها. أربعون عاماً مرت كأنها الدهر كله وغابت كأنها الأمس الذي لتوه قد مر مع غروب الشمس. في النهاية، مرت السنون ومر العمر وانتهى الانتظار وخرج كريم كما سيخرج ماهر وكما سيخرج آلاف الأسرى.
السجن لا يُبنى على أحد. جدران السجن تنهار وتقع فلا يمكن لها أن تزل إلى الأبد. لكل سجين موعد مع الحرية ولكل باب سجن مفتاح سيفتح في نهاية الأمر ويفتح ويخرج من في داخل السجن. لحظات الحرية هي أجمل لحظات النضال والكفاح لأنها المبتغى وهي غاية كل شيء. قد تمر سنون أكثر وقد يكون الألم أكثر وجعاً وقد يأكل المرض والإهمال الطبي المتعمد الحياة من قلوب البعض كما حدث مع ناصر أبو حميد الذي ما زال أسيراً حتى وهو ميت، ولكن في نهاية المطاف، ثمة حرية تنتظر، حرية لا يمكن أن نمل من الإيمان بأنها ستأتي وسننعم بها.
ثمة صورة غير مكتملة رغم ذلك. فكريم الذي خرج لم يجد أمه. ثمة أم انتظرت ثم ذهبت للعالم الآخر تنتظر هناك. المشهد المأساوي الذي يأكل القلوب ويقضم الروح. أم كريم المرأة التي باتت رمزاً من رموز الصبر ليس في فلسطين بل في العالم رحلت قبل أن ترى الحلم يتحقق وترى كريم وتمسكه بين يديها وتشمه وتضمه. المرأة التي كانت لا تمل تقبيل صوره وحملها في كل مكان، قررت في نهاية المطاف أن جسدها الواهن لم يعد يقدر على تحمل وقع الفرحة القادمة إذا تحقق الحلم لذلك انسحبت بهدوء عن خشبة الحياة حتى تترك المزيد من المتسع للفرح القادم.
ثمة صورة أخرى لأم ناصر أبو حميد، المرأة الصابرة التي قهرت الألم وهي تنتظر خروج أبنائها من السجن بعد أن قدمت منهم الشهيد والأسير والجريح. أم ناصر انتظرت ناصر أن يخرج. لم يستطع العالم كله أن يخرج ناصر من السجن حتى يرقد بطمأنينة ويحتضر بطمأنينة بين أهله وهو يفارق الحياة من قسوة المرض. كل العالم المتحضر ظل عاجزاً أن يثني دولة الإجرام عن الاستمرار في ساديتها وفي حرمان أم من أن تقبل جبين ابنها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. لم يجل ناصر عينيه في الأفق يتأمل أشجار أرض «تتشعبط» سلالم السماء ولم ير نبع الماء حيث ذكريات الطفولة ومدارج الصبا. رحل ناصر وسط ذهول وانتظار مؤلمين. ظلت الأم تنتظر لكن الجسد المنهك من المرض ومن الأمل والوجع لم يتمكن أن يكمل الطريق، لم يستطع أن يزل رهينة سادية الاحتلال ولاإنسانيته غير المسبوقة في التاريخ. لم يستطع أن يظل هكذا في انتظار الموت والآخرون يتوجعون في انتظار خروجه. معادلة صعبة. انهار الجسد المتعب وظلت الروح شامخة لم تستسلم. لم ينهار الجبل، تطايرت هباءات كثيرة في الفراغ الذي يلف برزخ الانتظار، وانتصرت الإرادة الصلبة. انتصر ناصر وانتصرت أم ناصر التي ظلت كجبل شامخ ونخلة باسقة تنظر للسماء بكبرياء دون كلل أو انهيار. ذهب ناصر وخرج كريم، وماتت أم كريم وظلت أم ناصر تنتظر. حكاية متكاملة.
بعد أيام تعد على أصابع اليدين، سيخرج ماهر يونس رفيق درب كريم وناصر في «فتح» وفي السجن. ستكون أم ماهر في انتظاره على عتبة البيت مثلما كانت تنتظره قبل عقود ستة وهو راجع من المدرسة، تحمل عنه الحقيبة المثقلة بالكتب والدفاتر والكراسات ثم تعد له وجبة الغذاء الساخنة قبل أن تعيد عليه واجباته وتساعده في حلها. بعد أيام، ستقف ذات الوقفة وستكون بذات اللهفة التي انتظرته فيها للمرة الأولى وهو عائد من المدرسة. فرحة لا يمكن لأحد أن يتخيلها. فرحة انتظرتها أربعين سنة. هذه المرة لم تنتظر نهارا مدرسيا عمره بضع ساعات بل انتظرت أربعين سنة، يوماً بيوم وليلة بليلة. كانت تعد الأيام والليالي والشهر والفصول. كان الزمن يمر أمام عينيها مثل عواصف برق متتالية. كم تمنت لو أنها أغمضت عينيها وأفاقت بعد مضي الوقت لتجد ماهر أمام البيت ينتظر أن تفتح له الباب. ثمة أم أيضاً هنا، إذ إن رفيقة الانتظار أم كريم قد رحلت قبل أشهر بعد أن لم تعد تستطيع الانتظار وبعد أن أحست أن الجسد انهار بالكامل. قصة متكاملة مع هذا، إذ إن الأم التي تنتظر نجد إجابتها الخاصة في كل حالة. فأم ماهر أيضاً تعرف كيف يؤلم الانتظار وكيف ينفد الصبر لكنها الآن بعد أن رأت كريم بشحمه ولحمه وبكت وهي تتخيل اللحظة القادمة تدرك بأن ثمة أملا لا يمكن أن يخبو حتى لو خبت الأجساد وتوقفت القلوب عن النبض.
من الأشياء الكثيرة المهمة التي قالها كريم بعد خروجه من السجن في التعبير عن حالة شعبنا قال، إن شعبنا يناضل منذ أكثر من مائة عام ولم ولن يرفع الراية البيضاء. اختصر كريم سيرة الشعب المكافح الذي نجح في ألا يندثر ويتحول إلى ذكريات ماضية عن شعب كان في سيرة التاريخ. شعب نجح في أن يظل على الخارطة. إنها الخارطة التي بقيت معلقة على الدار في انتظار عودة الأرض إلى أصحابها وعودتهم إليها كما عاد كريم إلى البيت وكما سيعود ماهر بعد قليل وكما سيعود جثمان ناصر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها