قد لا تكون الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية جديدة، بل تأتي ضمن سلسلة طويلة تمتد لسنوات من المواجهات بين الاحتلال وشعب يبحث منذ قرابة القرن عن حقوقه كسائر شعوب الأرض في الاستقلال والحرية والعيش بأمن وسلام، ولكن ما يميز هذه الأحداث أنها تتزامن وسلسلة من الأحداث المهمة التي سيكون لها ما بعدها في حال تمت عملية متكاملة من الجهات الرسمية والشعبية للبناء عليها لمتابعات قضائية وقانونية وسياسية على كافة المستويات.
ففي الوقت الذي اتخذت الدول الرافعة لشعارات الحرية والديمقراطية آلاف الإجراءات والعقوبات التي طالت كل المجالات لمحاصرة روسيا باعتبارها اعتدت على جارتها أوكرانيا، ولإجبارها على وقف اعتداءاتها، وفي الوقت نفسه الاعتراف بأن كل ما تقوم به أوكرانيا هو حق مقدس ويستحق من تلك الدول كل الدعم، هذه المقاربة لم تكن لتلك الدول ولو بحدها الأدنى تجاه الاحتلال الجاثم على الأرض الفلسطينية منذ عشرات السنوات.
إلا أن هذه الأحداث تضع كل المجتمع الدولي أمام حالة من انفصام الذات على دعاة حقوق الإنسان كدول ومؤسسات في مواجهة أنفسهم في الوقت الذي تتعرض فيه دور العبادة وفي الشهر المبارك للاجتياح الكامل دون مراعاة لحرمة المقدسات كما لم تسلم منها باقي التجمعات التي تتعرض لتغول المستوطنين المدعومين بقوات الجيش في أكثر من منطقة، وما ارتقاء الشهيد تلو الشهيد إلا دليل على إمعان قوات الاحتلال في الاستفادة وتحت جنح الظلام من انشغال العالم بما يجري في ساحات أخرى، وكذلك انشغال الدول الإقليمية وغير الإقليمية بالبحث عن مصادر لوارداتها بعد تخوفها من أزمات غذائية جراء تأثيرات الحرب على صادرات السلع الغذائية من روسيا وأوكرانيا.
ورغم تحول الإجراءات ضد أماكن العبادة لحالة من الهجوم والوصول إلى داخل أماكن الصلاة وما تلاها من تداعيات، الا أن هذه التطورات الميدانية فرضت متغيراً جديداً على الجهات المعنية التقاطه كل من جانب مسؤوليته تجاه الدفاع عن حقوق شعبنا في الحرية وحماية مقدساته وأرواح أبناء شعبنا، لأن حجم التضحيات الأخيرة وتزامنها مع التطورات الدولية والاصطفاف الجاري تجاه المواقف من الحرب الروسية – الأوكرانية، وضعا الأمم المتحدة في حرج كبير، حيث لا يمكنها البقاء تحت ستار غليظ من الصمت أو إدارة الظهر، وهذا تكشف مع موقفها الأخير على لسان الناطق العام باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك بشأن ضرورة التحقيق في أية حالة لاستخدام العنف في أحداث المسجد الأقصى الأخيرة، موقف وبغض النظر عن دوافعه أو مدى جديته، إلا أنه يتطلب منا تعزيزه والبناء عليه، فالأرض والشعب والمقدسات الفلسطينية جميعها تحت الاحتلال، ونحن لا نطلب الدعم العسكري الذي تقدمه دول الديمقراطية لأوكرانيا ولا نطلب أن تتحول الأراضي الفلسطينية لساحة حرب لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، لكننا نطالب تلك الدول بممارسة نفس قيمها واستخدامها كأدوات ضغط من أجل إيجاد حل عادل لصراع سيبقى سببا لعدم الاستقرار في كل الظروف، وكذلك حتى تكون تلك الدول وتلك الحكومات ذات وجه واحد أمام نفسها وأمام شعوبها وأمام باقي شعوب العالم.
انتهاك المقدسات ومداهمة البيوت والاعتقالات وإطلاق العنان للجيش والمستوطنين لا يؤدي لفرض الأمن بقدر ما يخلق ساحات للمواجهة ، لأن القبضة الحديدية وغيرها من السياسات سبق وتم استخدامها في ثمانينيات القرن الماضي وقبلها، وحينما توصلت القيادات في حينها إلى أن الاحتلال ليس هو الحل كانت الطريق للمفاوضات من أجل السلام العادل والشامل، وحين تراجعت سلطات الاحتلال عن استحقاقات السلام وما تتطلبه المفاوضات كثمن للحل الدائم والشامل وتحقيق شعار الرئيس الشهيد أبو عمار"سلام الشجعان" انحدرت الأمور لما نحن عليه الآن، التصعيد والمداهمات والقبضة الدامية طريقها ونتيجتها واحدة، هي الفشل، لأن الحل فقط يكمن في إنهاء الاحتلال والإقرار بحق فلسطين بأن تكون كسائر دول العالم، ودون ذلك ستبقى دول العالم تبحث عن مكيال جديد وتبحث عن ستار كبير ليستر عورتها لازدواجية معاييرها وتملصها من استحقاقات القيم والمبادئ التي صدعت رؤوسنا بها على امتداد عشرات السنين.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها