إيهاب الريماوي
ظنت علا أبو حميد، أنها ستلاقي شقيقها الأسير ناصر ضعيفًا أو أصابه الوهن لدى زيارته في "عيادة سجن الرملة" أمس الخميس، لذا وقبل أن تصل إلى شباك الزيارة، حثت زوجة شقيقها الآخر الأسير محمد المتواجد معه بالسجن ذاته، ألا تظهر نظرات الشفقة أمامه، حتى لا تؤثر عليه.
كما اتفقتا أن تحافظا على قوتيهما، وتقويان من عزيمة ناصر (49 عاما)، فهو بأمس الحاجة لذلك، خاصة بعد أن أبلغهم المحامي أنه ملازم لكرسي متحرك، وموصول بالأوكسجين طيلة الوقت.
أطل ناصر ومحمد المنحدران من مخيم الأمعري بمدينة رام الله، من بعيد، لتصدما بأن ناصر هو من يقود محمد على الكرسي المتحرك وذلك حتى يظهر أن المرض لم يهزمه أو يفت من عزيمته، رغم أنه يحمل على ظهره أنبوبة الأوكسجين، ويمشي بصعوبة بالغة.
واجه ناصر منذ العام الماضي رحلة طويلة من سياسة الإهمال الطبي "القتل البطيء" ومنها تعرضه لخطئ طبي بعد أنّ تبينت إصابته بسرطان الرئة، كما أن المرحلة التي وصل لها كانت نتاج سياسات ممنهجة واجهها خلال سنوات اعتقاله منذ عام 2002.
صعقت شقيقتهما علا من هذا المشهد الذي لا يغيب عن بالها منذ أن زارت ناصر، فقد جاءها مبتسمًا، وبمعنويات قل نظيرها رغم المرض.
تقول علا: "كان ناصر يمشي بصعوبة كبيرة، وكأنه أراد أن يخبرنا أن معنوياته عالية، ولم يهدها المرض ولا السجن، هذا المشهد أثار مشاعر أهالي الأسرى، الذين كانوا في زيارة لأبنائهم، حيث وقفوا جميعهم مصفقين له، وتحول مشهد الحزن الذي كنا نتوقعه إلى فرح كبير".
كان من المفترض أن تكون هذه الزيارة لثلاثة من عائلة ناصر، لكنها انتهت بالسماح فقط لعلا وزوجة شقيقها الأسير محمد الذي يقضي حكمًا بالسجن المؤبد ثلاث مرات، فوالدته منعت بحجة انتهاء صلاحية تصريحها، وشقيقها ناجي ممنوع أيضًا من زيارته لمدة عام.
عندما نقل ناصر إلى عيادة سجن الرملة، ضغط شقيقاه الأسيران نصر ومحمد القابعان في سجن عسقلان، للسماح لأحدهما بمرافقته، وتمكنا من انتزاع قرار بذلك، فوقع الاختيار على محمد الذي يلازمه منذ نقله من المستشفى.
في الزيارة، رفعت علا سماعة الهاتف، وناصر في الجهة المقابلة، يفصلهما عازل زجاجي، سألته في بادئ الأمر: "هل تتذكرني؟"، أجاب: "نعم فأنت كنت تأتين لزيارتي في سجن عسقلان وترتدين العباءة السوداء".
منذ أن أفاق ناصر من الغيبوبة التي استمرت لأكثر من عشرين يومًا، لم يعد يتذكر شيئًا، فخلال زيارة علا له اصطحبت معها صورًا وذكرته بمواقف حدثت معه وبأشقائه وبوالدته، حتى بنصر رفيقه في سجن عسقلان منذ عشرين عامًا، إلا أنه لم يتذكر منهم أحداً".
وتضيف: "كان صوته متعباً، يتحدث قليلاً ثم يهدأ بسبب الصعوبة التي يواجهها في التنفس، فالزيارة كانت صعبة جدًا علينا، وحاولت خلالها أن أذكره بتفاصيل الأشياء، ولو بجزء منها، لكنني لم أفلح، وأكثر ما أسعدني أن الابتسامة لم تفارق وجهه، صحيح أن ذاكرته خانته إلا معنوياته ما زالت عالية".
ما يتذكره ناصر هو يوم أفاق من الغيبوبة في مستشفى "برزلاي"، حيث قال لشقيقته إنه لم يكن يدرك ما يدور حوله، إلا بعد أن أوضح له الأطباء الظروف التي مر بها خلال الفترة الماضية.
في ذلك اليوم، سأل الأطباء والممرضين أين أنا؟ فأجابوه بالمستشفى، لكنه لم يكن يعلم ماذا حل به، ولماذا هو هناك، وبعد فترة تمكن من إدراك وضعه، بعد أن أخبروه بما مر به، وما يعانيه.
ذكر له أحد الأطباء أنه خلال الغيبوبة التي مر بها توقف دماغه عن العمل، وحاولوا إنعاشه بالصعقات الكهربائية لكن دون جدوى، وكانوا على وشك إعلان وفاته، وإبلاغ إدارة السجن بذلك، لكنه فجأة حرك عينيه، وعاد له الأمل بالحياة، فكثفوا له الصعقات، حتى بدأ يستعيد تنفسه ببطئ.
عجز الأطباء عن إيجاد تفسير لبقائه على قيد الحياة حسب ما أخبر ناصر شقيقته علا، لأنه كان في حالة موت سريري، واحتمال بقائه حيًا كان ضئيلًا جدًا، بل معدومًا، لكنه قال لها: "نجوت من الموت للمرة الثانية، مرة يوم أصبت بجروح خطيرة في انتفاضة الحجارة، وفي هذه المرة، فأنا سأظل واقفًا على قدمي رغم كل هذا الألم والوجع".
يروي الأسير محمد أبو حميد شقيق ناصر الذي يرافقه في عيادة سجن الرملة، لشقيقته وزوجته خلال الزيارة، أن ناصر وصله للعيادة بوضع صحي حرج، وكان عبارة عن "هيكل عظمي"، ولا يتحرك أبدًا، وكان يساعده في حركته، وطعامه، وكافة متطلباته.
ووفق علا، فإن شقيقها محمد يركز في هذه المرحلة على تنشيط ذاكرة ناصر حتى يتمكن من استعادتها، وليتفرغ لمتابعة علاجه ومقاومة المرض، كما أنه يقدم العلاج لشقيقه، ويقوم بـ "تدليك" قدميه ويديه باستمرار.
لاحظت علا خلال الزيارة بأن يدي ناصر ترتجفان، لكنه كان يطمئنها بألا تقلق عليه لأن هناك أسرى إلى جانبه –أي محمد- يعتنون به كثيرًا.
"ناصر كتلة من المعنويات، ولا أتحدث ذلك لأني شقيقته، بل لأنه يرفع الرأس، فعندما دخل علينا واقفاً على قدميه رغم وجعه، أعطانا أملا بأنه قوي، وسيبقى كذلك".
يقول شقيقه ناجي أبو حميد إن سبب فقدان ناصر للذاكرة هو فترة غيبوبته الطويلة، وأدوية التخدير التي كانت تعطى له، وذلك حسب الأطباء الذي أشرفوا على علاجه، كما أنه بحاجة إلى أطباء مختصين في هذه المرحلة لعلاج رئتيه وأطرافه، إضافة إلى متابعة علاجه من مرض السرطان.
وكانت سلطات الاحتلال نقلت الأسير أبو حميد من مستشفى "برزلاي" إلى عيادة سجن الرملة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، في حين طالبت هيئة شؤون الأسرى والمحررين بضرورة نقله إلى مستشفى مدني لمتابعة علاجه، مؤكدة أن نقله من مستشفى "برزلاي" قرار رسمي بإعدامه.
أمضى ناصر ما مجموعه 33 عاما في السجون، وهو محكوم بالسجن المؤبد 5 مرات و50 عامًا، وهو من بين خمسة أشقاء يواجهون الحكم مدى الحياة في المعتقلات، وكان قد تعرض منزلهم للهدم عدة مرات على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها