رامي سمارة

متكئة على شابين، وصلت نجوى البرغوثي بخطوات مثقلة إلى المنزل، قادمة من وداع بكرها لاستقباله للمرة الأخيرة ومن ثم وداعه مجددا لآخر مرة.

بالأمس، كانت تحتضنه عند ثلاجة المستشفى ظانة أنه يمازحها بموته، ولم تستوعب أن إحدى رصاصات الاحتلال كانت جادة في انتزاع روحه إلى الأبد في قرية النبي صالح المجاورة.

"خليتني لمين؟ أنا عارفة انك بتتفرج علي وبتضحك علي وبدك تقوم، هيو بلفت علي بده يقوم. هيو يا زلمة بده يقوم. حسبي الله ونعم الوكيل في ولاد الحرام اللي ما بعرفوا قديش الدم الغالي".

قالت نجوى وهي تمسح بيدها على جبين نجلها الشهيد نهاد البرغوثي، فور وصولها إلى المستشفى الاستشاري، الذي نقل اليه مصابا برصاص الاحتلال وفيه أعلن عن ارتقائه.

على الطريق الرابط بين قريتي النبي صالح وكفر عين، وقف عشرات الفتية في صفين متقابلين حاملين أعلام فلسطين، لاستقبال جثمان الشهيد، الذي وصل في سيارة إسعاف تتقدم موكبا طويلا من مركبات أبناء البلدة والمشيعين.

وفي انتظاره أمام منزل ذويه، الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار عن الطريق الرئيسي، وقف المئات من أبناء البلدة الذين هتفوا بالروح بالدم نفديك يا شهيد، ويا أم الشهيد نيالك يا ريت أمي بدالك".

كانت نجوى قد سبقت الركب نحو باحة المنزل الضيقة، وأمام البوابة جلست على كرسي تنتظر وصول ابنها لوداعه للمرة الأخيرة قبل مواراته الثرى، وحولها قريبات لها ونساء من البلدة محاولات مؤازرتها ومواساتها.

انزل الجثمان من مركبة الإسعاف، وحمل على أكتاف أصدقائه وأقاربه الذين رافقوه بهتاف "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" و"يا ام الشهيد نيالك يا ريت امي بدالك".

وما أن وضع على منضدة، حتى ووري جثمان الشهيد نهاد البرغوثي، بعبرات وزغاريد أهله ومحبيه في باحة المنزل، قبل أن يسجى تحت الثرى.

غاب جثمانه بين أجساد العشرات من أفراد عائلته الذين تجمعوا حوله وبكوا غيابه بحرقة، بينما تتحسس والدته جثمان ابنها وتمسح بكفها على وجهه.

وحين كانت تشتد نوبات النواح، يصرخ أمين والد الشهيد طالباً من النساء إطلاق الزغاريد: "هذا شهيد بنرفع راسنا فيه، هذا شهيد طلبه ربه، زغردن"، يلبين طلبه ثم يعدن لما كن عليه.

ولأنه لا يكتفي من وداع الميت للمرة الأخيرة في بيته، كان لزاما أن يطلب أمين من أصدقاء الشهيد وأقاربه أن يحملوا الجثمان ويعودوا به إلى سيارة الإسعاف، خاصة أن موعد أذان الظهر قد شارف.

انطلق مجددا موكب التشييع إلى مدرسة البلدة التي اكتظت باحتها بالمئات، صلوا الظهر من ثم أدوا صلاة الجنازة.

صعودا نحو إحدى أعلى قمم الجبال، حمل الشهيد إلى مقبرة البلدة لدفنه، وبينما كان يوارى جثمانه الثرى، جلست نجوى عند مدخل المقبرة محاطة بالعشرات من النساء. قادها قلبها إلى هناك لكي تودعه مرة أخرى ولو من بعيد.

وبينما كانت إحداهن تمسك بيدها لتشد من عزيمتها، قالت: "الله يسهل عليك يا نهاد ويحنن عليك. انت طلبتها ونلتها" في إشارة للشهادة.

وراحت تعدد مناقب بكرها، إذ كان الأفضل والأحن، ولم يحدث أن نامت وفي قلبها أي غضب عليه.

وذكرت أنه أوصاها ذات مرة بألا تبكيه إن مات شهيداً، وأجابته طالبة منه التوقف عن المزاح، فرد قائلا: "إذا بتحبيني وبتعزيني ما تعيطي علي، أمانة ما تعيطي علي إذا استشهدت"، حمدت الله وطلبت منه أن يصبرها على فراقه.

على الجانب المقابل في المقبرة، وتحت سقف من الصفيح يوضع ليقي من حر الصيف وقرّ الشتاء، وقف أمين البرغوثي لاستقبال المهنئين والمعزين باستشهاد ابنه، الذي أصيب برصاص الاحتلال مرتين واعتقل في سجونه ثلاثا.

اعتقل الشهيد نهاد البرغوثي في إحدى المرات بعد أن أصيب بجروح حرجة في الرقبة، وفي أخرى اضطر لأن يسلم نفسه لقوات الاحتلال ليتم الافراج عن أخيه مروان.

يقول أمين: "بعد سنتين من اعتقاله أول مرة، طوق الاحتلال المنزل لاعتقال نهاد، لكنه تمكن من الفرار، وحينها اعتقلوا أخاه الذي كان يستعد لعرسه، وقالوا إنهم لن يطلقوا سراح مروان إلا بعد أن يسلم نهاد نفسه، فقرر تسليم نفسه بنفسه، حتى يتمكن اخوه من الفرح".

ومن المواقف التي يرويها والد الشهيد عنه، أنه خرج في أحد الأعياد قاصدا البوابة الحديدة التي ينصبها الاحتلال الإسرائيلي على مدخل قرية النبي صالح المجاورة، وقام بفتحها ليتكمن أقاربهم من الوصول اليهم لتهنئتهم بالعيد، فعاد مصابا بشظايا الرصاص التي أطلقها صوبه جنود الاحتلال.

وكان يردد: "لا يمكن أن استسيغ أن يقوم مستوطن بلا أصل ولا فصل، بتفتيشي وهو يرتدي لباسا عسكريا، لا يمكن أن أتخيل أن الغرباء يقيمون لنا الحواجز في وطننا".

وبحسب والده، فإن الشهيد أرسل له الاحتلال عدة مرات أن "احذر وإلا قتلناك"، فرده كان أن روحه على كفه، وأن والده ورثه النضال جريحا وأسيرا ومحررا، وليس الأموال ولا الممتلكات.

وكما يقول أمين، فقد كان الشهيد فخورا بالاسم الذي يحمله، إذ منحه الاسم تيمنا بالشهيد نهاد هنطش الذي ارتقى برصاص الاحتلال في 15 كانون الأول/ ديسمبر عام 2000 عند مدخل قرية كفر عين.

والشهيد نهاد حسن هنطش، وهو رجل أمن من سكان باقة الحطب في محافظة قلقيلية، ارتقى بعد ان استهدفه الاحتلال بعدة رصاصات خلال تصديه لمحاولة اقتحام لقوات الاحتلال لحاجز لقوات الأمن الوطني عند كفر عين.

ويروي أمين البرغوثي، أنه كان أول من وصل إلى منطقة الحاجز آنذاك، وحين رأى رجل الأمن مضرجا بدمائه حاول تقديم الإسعاف له، إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه، فقرر تسمية ابنه القادم على اسم الشهيد تيمنا به وبفعله المناضل.