هناك من الحمامسة في غزة، من يتعمّدون تعكير أجواء التقارب الراهنة، وتسميم مناخ المصالحة، فيضغطون بكل قوتهم لكي لا تتوافق القوى الفلسطينية التي أوصلتها التجربة الى مواقف متقاربة، لا تُباعد بينها اختلافات استراتيجية. وهؤلاء المعكّرون، يظنون إن نصوص سجالاتهم التبريرية جاهزة، بحيث يُقال بلسان ناطقيهم، بعد أن يفشل المسعى الفتحاوي التصالحي، إن السلطة، وبتحريض من 'دايتون' قد تراجعت ولم تجرؤ على الذهاب الى مصالحة. وبالطبع، لا يكترث هؤلاء الى كون نصوصهم غدت متجردة من الدلالات، ولا يصدقها أحد، ولن يكترثوا لكون كل فلسطيني ذي فطنة، سيعرف أن ما جرى وما يجري، لتعكير الأجواء ولتعميق التباغض، إنما هو يتساوق مع رغبات الإدارة الأمريكية حول الوفاق الفلسطيني، ومع يقوله نتنياهو متهدداً ومتوعداً!

الفتية الحمامسة، المنفلتون على كوادر فتح في غزة، ليسوا من ذوي الرسوخ في النضال، لكي نقول إن لهم استراتيجية مغايرة. فالراسخ في النضال يخوض التجارب ويقاتل ويهادن ويقرأ الوقائع ويفرض القانون، مستنداً الى رصيده من الكفاح الوطني. أما هؤلاء فإنهم وعناصر بيئاتهم، من الشريحة التي استبدلت مبكراً خيار الانخراط في النضال الوطني، بالعمل الحزبي الديني في 'الأسر' والشُعَب' وكانوا في ذروة أيام الاحتلال يصفوننا بـ 'رجال المنظمات' وظفروا بخطوط سفر سالكة ذهاباً وإياباً، للتحصل على الدكتوراة في سودان الترابي وماليزيا وسواهما، بينما أهلنا ممنوعون من السفر. لذا فإن حركة هؤلاء المناوئة للوفاق، تصدر عن نفوس ليس لديها حواس طبيعية، تؤهلها لأن تعرف مساوىء انقسام الكيانية الفلسطينية، وأن تقرأ المخاطر على وحدة النسيج الاجتماعي، وضرورات قيام الكيانية نواة الدولة، التي تكون حَكَماً نزيهاً بين الناس، تحتكر حصرياً الحق في الإكراه، نيابة عن المجتمع ولمصلحته وبالقانون!

* * *

الهجوم الضاري على ذكرى استشهاد الزعيم ياسر عرفات، باسم المُطلقات 'الجهادية' وباسم 'برنامج المقاومة' وباسم قوالب التعبيرات الفاقدة للدلالة، ينم عن شُبهة خطيرة، وإذ سيكون لكل أمر نهاية، سيعلم كل ذي عقل وضمير، أن ما يفعله المهاجمون ليس فعلاً بريئاً ولا علاقة له بالشرف الوطني ولا بالقضية، بل هو يمثل، في أحسن التقديرات، نزعات بلطجة وتشبيح، ونسألك اللهم أن لا يكون فعلاً موحى به من أوساط الرافضين للمصالحة في واشنطن وتل أبيب!الرئيس أبو مازن، ومعه فتح وكل الوطنيين، يمدون أيديهم للوفاق. وما تمزيق صور الشهيد ياسر عرفات والتعدي على أطفال يحملون الشموع في ذكراه، إلا ممارسات يهنأ بها الحاخام عوفاديا يوسف. فلا يختلف اثنان، على أن 'الختيار' قضى بالسم الصهيوني، لأنه زعيم ثورة ورمز كبرياء يضيق به من يريدون لنا الذلة. وهو سم سبقه الإعلان الصريح بأن أيام عرفات باتت معدودة!

عزاؤنا فيما يفعله الفتية الهائجون في غزة، أن قطاعاً عريضاً من منتسبي حماس، يرحب بالوفاق الوطني، ويتمنى بأن يكون لقاء الرئيس عباس وخالد مشعل، حاسماً ومُنتجاً لخطوات عملية، في اتجاه إعادة اللحمة. ربما يرى البعض في هذه السطور قولاً حاداً، لكن المسائل المتعلقة بمصير الوحدة الوطنية لا تحتمل الكلام الموارب. إن المُعطلين من أي طرف، يُلحقون الأذى بالشعب الفلسطيني، ومن يستسهلون الانقضاض على الناس، ويصرون على الإساءة لرموز التاريخ الفلسطيني المعاصر، لن يُتركوا دون تقييم موضوعي ينسبهم الى معسكرهم. فمن يعطل المصالحة، ويُفاقم التباغض في المجتمع، وينكأ الجراح، إنما هو على خط أولئك الذين وقفوا ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وضد الوحدة الوطنية الفلسطينية، وضد مشاركة حماس نفسها في النظام السياسي الفلسطيني الشرعي، المنفتح بمفردات قضيته وبأمنيات شعبه، على العالم في جهات الدنيا الأربع!