مرت أمس الأول السبت، الذكرى الـ54 لتأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من رحم حركة القوميين العرب، حيث لعبت هزيمة حزيران 1967 دورًا أساسيًا في نشوء وتأسيس أغلب فصائل العمل الوطني، كما أتاحت الظاهرة العلنية في دول الطوق، خاصة في الأردن وسوريا في البداية ثم لبنان مناخًا ملائمًا لتعميم تلك الظاهرة كرد مباشر وفوري على هزيمة الجيوش العربية الكلاسيكية، ما فتح المجال لشق طريق حرب التحرير الشعبية، التي اكتسب نموذجها زخما هاما في فيتنام والصين وأميركا اللاتينية، خاصة تجربة تشي جيفارا وغيرها من التجارب الثورية، ما عزز خيار الكفاح المسلح الوطني لتحرير الأرض الفلسطينية. 
دون الخوض في الأسباب المساعدة والمؤثرة في إعلان تأسيس الجبهة، وبالتوقف أمام أبرز عناوين الحصاد لخمسة عقود ونصف العقد، يمكن الجزم أن الشعبية شكلت رافعة أساسية من روافع الثورة الفلسطينية المعاصرة، وتمكنت بخطابها الفكري السياسي اليساري، وبآليات كفاحها، ونمطية أدواتها التنظيمية من تمييز نفسها عن باقي الفصائل، واحتلت لاعتبارات مختلفة مكانة الفصيل الثاني في فصائل منظمة التحرير.

وكانت الجبهة الشعبية الصوت المعارض الأقوى والأهم في منظمة التحرير. وشكلت وقادت في السبعينيات من القرن الماضي جبهة الرفض رفضا للبرنامج المرحلي، انطلاقًا من خلفيتها الفكرية السياسية. ولكنها للتاريخ والتوثيق كانت حامية للمنظمة، ولم تفرط يوما بها ولا بمكانتها، ورفضت كل الإغراءات والحسابات التنظيمية الضيقة لتشكيل بديل عنها، وتصدت بقوة في أكثر من محطة تاريخية لأنظمة عربية وقوى فلسطينية للدفاع عن المنظمة، وانحازت في لحظات حساسة لناصية الوحدة الوطنية، ولتصليب وتعزيز دور منظمة التحرير الفلسطينية. 

وهناك الكثير من الإنجازات التنظيمية والوطنية تحسب للشعبية، ليس هنا مجال سردها، لكن الفصيل الثاني تراجع كثيرا بعد زلزال لبنان 1982 في الإمكانات، والدور والمكانة الوطنية، مع أنها في انتفاضة كانون الأول 1987 حصدت في الأعوام الأولى امتداداً واسعًا، بيد أنها لم تحافظ عليه، وبعد صعود الإسلام السياسي عموما، وتأسيس حركة حماس مع انطلاق الانتفاضة الكانونية مطلع 1988 تعمقت أزمتها العضوية الداخلية، وعانت من فقدانها الإمساك بالحلقة المركزية في المحطات السياسية المفصلية، ووقعت في دوامة التخبط الفكري السياسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. فلم يعد هناك وضوح ولا رؤية لخلفيتها الفكرية، وطابعها اليساري عانى من التشوش والإرباك حتى يوم الدنيا هذا، وحتى أكون دقيق ليست وحدها، بل كل قوى اليسار وقعت في ذلك التخبط. وانزلقت في متاهة تحالفات إقليمية ومحلية أساءت كثيرا لتجربتها الريادية، حتى أن بعض كوادرها السياسية والعسكرية لم يعد يميز بين التحالف التكتيكي والتحالف الاستراتيجي، ولم تفصل بين الدين والسياسة، وبين الحركات الدينية بتلاوينها المختلفة، ولم تفرز الغث من السمين في هذه المدارس والفرق الدينية، ولم تحدد مكانها الوطني الدقيق أثناء وبعد انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية أواسط عام 2007 ليس هذا فحسب، إنما تساوقت مع خيار الانقلابيين التخريبي، وضاعت في دهاليز الفوضى والإرباك، ما أثر على مصداقيتها ودورها التاريخي، الذي يبدو أن القيادات الحالية للشعبية نسيته، ولم تعد تذكر أولويات القيادات التاريخية في أشد لحظات الصراع مع قيادة المنظمة وحركة فتح، ما أساء لتجربتها ومكانتها الوطنية والقومية. 

مما لا شك فيه، أن التحالفات مشروعة في محطات الكفاح الوطني، ولكن هناك تحالفات مؤقتة وتكتيكية، وهناك تحالفات بعيدة المدى، وفي مطلق الأحوال وأيا كانت حدود التباين مع فصائل المنظمة عموما وحركة "فتح" خصوصًا، يبقى التحالف معها ذات طبيعة استراتيجية، غير أن التحالف مع القوى الإسلاموية يبقى في النطاق التكتيكي؛ لأن تلك القوى وأيًا كانت شعاراتها ومواقفها المعلنة لا يمكن أن تكون حليفًا استراتيجيًا، ولا يمكن لإيران الفارسية مهما دفعت من أموال أن تكون حليفًا للمقاومة، لأنها شريكة أميركا في تدمير العراق، وأدواتها التي تحكم حتى اللحظة هناك، وفي العديد من العواصم العربية، وعلى حساب المشروع الوطني والقومي العربي. وإذا كان ولا بد من تدوير الزوايا ونسج علاقات تحالفية تكتيكية ارتباطًا بشروط اللحظة السياسية، لا يجوز أن ينسى قادة وكوادر الشعبية من هي إيران الفارسية. 
والآن ومع اشتداد الهجمة الصهيوأميركية فإن الضرورة تتطلب من المكتب السياسي واللجنة المركزية للشعبية أن تغلب البعد الوطني على الحسابات والشعارات الفضفاضة والكبيرة، والانشداد لتطوير وتعزيز مكانة منظمة التحرير من خلال الانخراط في هيئاتها المركزية والعمل من داخلها لإصلاح شؤون البيت الفلسطيني، ومواجهة قيادة المنظمة وحركة فتح من على أرضية مبدأ وحدة/ صراع / وحدة، ومن داخل بيت المنظمة، لا بالتساوق مع فرع حركة الإخوان المسلمين في فلسطين (حماس)، التي حاولت مرات عدة تقويض المنظمة وسحب البساط من تحت أقدامها. 
بمناسبة الذكرى الـ54 لانطلاقة الشعبية، التي أرجوها أن تكون محطة للتقييم والمراجعة للتجربة السابقة، ولإعادة النظر في السياسات الخاطئة، لحماية دور ومكانة الشعبية، واستعادة ثقلها التاريخي في صفوف الحركة الوطنية، ولتكريس والارتقاء بمكانة ودور منظمة التحرير. وكل عام والشعبية قيادة وكوادر وأعضاء وأنصارًا بخير.

المصدر: الحياة الجديدة