هي ذكرى تحمل رائحة الوطن. فكل روايات أبي عمار وأحاديث دروبه، تأخذنا الى أبعد مدى. نرى فيها ذوب أرواحنا وأماسي انضالاتنا العسيرة، على امتداد طريق طويل. هو ذاكرة نزهو بها، غَدت هي الأعز، والأقوى، في مواجهة المحن. تعلمنا منه، كيف نسمو على الجراح، وكيف نتفاءل ونتشبث بكبريائنا حتى وإن مضت بنا الأيام، الى وجهة لا نعلم مسارها. نستمد ذرائع البقاء والثبات، من صور الأمكنة التي ألفناها مع أبي عمار. فلا تغيب تفاصيلها ولا شخوصها. طيف الرجل، ما زال يُطل علينا، وما تزال ملامحه قريبة من عيوننا، وملحمته حاضرة تضج بلقطاتها، وإن كان فقده، يشي في كل يوم، بغياب جديد، وبرحلة جديدة!

في أوقاتنا الراهنة، نقترب من طيفه أكثر فأكثر، يفتش كل واحد منا عن شىء يشبهه أو يشبه 'الختيار'. وفي تدرجات الألوان، في كل صورة لأبي عمار، نفتش عن براهين الجدارة في استمرار المسيرة. إن طائر الفينيق ذاك،  هو الشاهد على عنادنا الأول، وعلى جسارتنا الأولى، وعلى غربة الحنين، وعلى الأشواق الثكلى، لذا فإن الراحل في دروب الغياب، يبثنا الأمل والإحساس بالعز والفخار.

كم كان مؤلماً غياب العزيز المُفتقد، وكم هو مؤنسٌ طيفه المُستعاد. إن الأسعد حظاً بيننا، هم أولئك الذين فاز كل منهم بنصيب أوفر من أي مشترك مع 'الختيار' سواء كان همسة أو رحلة أو طُرفة أو حتى عتاب. لقد تعرض أبو عمار لعملية قتل أفصح المحتلون عن نواياها وعن مواعيدها التقريبية. ولما بدأت، أطل من باب المروحية، في الرحلة الأخيرة، ليبثنا عشقه وحنانه ووفاءه من جديد. كانت رائحة الموت تختلط بخواطر الوداع. أراد في يوم الصعود الى المروحية، أن يضع ابتسامته أمانة في أعناقنا، فيأذن لنا بأن نتسلح بها في مواجهة عربدات العدو ونكران الشقيق، الذي تخلى عنه، واهماً (هذا الشقيق) أن حصار ياسر عرفات، ثم قتله، ليس حلقة من سلسلة تطال عديدين من أعضاء نادي رؤوس الشرعيات الرسمية العربية. فقد أمسك الغزاة بصدام حسين بعد رحيل أبي عمار بشهر، وسلموه للطائفيين لإعدامه بعد ثلاث سنوات من الإمساك به، ثم دارت الدائرة على من هانت عليهم الأوطان، فمنهم من هرب كالطريد الآثم  الباحث عن ملاذ، ومنهم من أدخل الى قفص المحكمة ذليلاً على سرير المشفى، ومنهم من يحاصره شعبه في قفص الحكم، ملطخة أيديه بدم الناس، ومنهم من أمسك به الشبان، بمساعدة المستعمرين القدامى الذين أعيته الحيلة في التودد اليهم؛ فأشبعه الصغار الهائجون ركلاً بالأقدام قبل أن يُطلقوا عليه رصاصات أردته، ومنهم من هم على الطريق الى حتفهم وذلتهم!

 لكن العظام وقوفاً يموتون. فأبو عمار قضى بطلاً واقفاً ممتنعاً عن الإنكسار، ليهرع المرتجفون والخائنون للانضمام الى الأحباء الحقيقيين، في تشييعه المهيب. طوبى له حيثما يضجع الآن على مقربة من القدس. ستظل سيرته، نبعاً لذاكرة المناضلين، نتعلم منها، أن الغزاة ذاهبون حتماً، وأن الوطن هو صنو الفطرة، وأن الأعداء لا عهد لهم ولا ميثاق، وأن الاستشهاد وقوفاً وامتناعاً على الطامعين، هو أحلى أنواع الموت وأعذبها. سيرحل من تبقى من المتواطئين غير ماسوف على سحناتهم، أما أبو عمار فإنه سيظل حاضراً في الضمائر، على الرغم من الفقد والغياب!