ليس سراً أن قرار القيادة الفلسطينية في اجتماعها الذي ترأسه الرئيس محمود عباس بتأجيل الانتخابات العامة كان قراراً جريئاً جاء في لحظةٍ مصيريةٍ حاسمة. ففي أثناء استعداد القوائم الانتخابية المتنافسة للبدء في حملتها الانتخابية، وفي ظل التصعيد الإسرائيلي ضد شعبنا الفلسطيني في القدس، وفي ظل سيادة حالة من الصمت الأوروبي والعالمي تجاه الرفض الإسرائيلي للسماح للمقدسيين بالتصويت في الانتخابات التشريعية، جاء قرار السيد الرئيس بتأجيل الانتخابات العامة، ليعبر عن حالة التوافق بين غالبية فصائل العمل الوطني في التصدي للمشروع الصهيوني من جانب، وليعكس القرار تصميم القيادة الفلسطينية على الاستمرار في التصدي لصفقة القرن والعمل على إجهاضها.

وبرغم أن الجميع كان يدرك واقع الأزمة التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني، حيث تعتبر الانتخابات بشكل عام أداةً فعالةً للتحول السياسي والتداول السلمي للسلطة وتجديد الشرعيات، كما أنها في إطار الخصوصية الفلسطينية تعتبر أداةً ومدخلاً لإنهاء الانقسام، فإن قرار السيد الرئيس عبر في جوهره عن أن الأولوية الأساسية للفلسطينيين هي التحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وأنه إذا ما حدث أي تعارض بين عملية الانتخابات من جهة، وبين أولوية التحرر من جهة ثانية، فإن الفلسطينيين قيادةً وأحزاباً وشعباً سيختارون حتماً أولوية التحرر.

لقد راهن الإسرائيليون ومن يسير في ركبهم، على أن الرئيس أبو مازن وفي ظل التحديات الداخلية والخارجية سيجد نفسه مرغماً على الاستمرار في العملية الانتخابية، ولن يكون بوسعه اتخاذ قرارٍ مصيريٍ هام يقضي بتأجيل الانتخابات، وهم من أجل تحقيق هذه الغاية، راوغوا في الرد على رسالة حسين الشيخ التي تطلب من حكومة الاحتلال عدم إعاقة الانتخابات في القدس، كما أنهم راوغوا في الرد على رسائل الاتحاد الأوروبي المتكررة حول الغاية نفسها، وهم بهذه المراوغة كانوا يسعون من جانبٍ إلى منع أخذ دليلٍ رسميٍ على رفضهم تنفيذ الاتفاقات الموقعة بينهم وبين الفلسطينيين لاسيما في قضية الانتخابات في القدس، يمكن بالتالي أن تتحمل إسرائيل مسؤوليةً قانونيةً دولية على ذلك الرفض.  ومن جانب آخر، كان هدف مراوغتهم إيصال الفلسطينيين إلى نقطة اللاعودة، بحيث يصعب عليهم تأجيل الانتخابات في اللحظة الأخيرة، وبالضرورة الاضطرار إلى إجرائها دون القدس، وهنا، فإن إسرائيل ستحقق نصراً دبلوماسياً وقانونياً يكرس صفقة القرن باعتبار القدس الموحدة عاصمة للدولة العبرية كما أقرتها الصفقة.

ولكن يبدو جلياً أن مراوغة الجانب الإسرائيلي باءت بالفشل، فقام الرئيس أبو مازن بدعوة القيادة الفلسطينية للاجتماع، وبعد نقاش موسع اتخد ومن دون ترددٍ قرار تأجيل الانتخابات العامة عندما بات واضحاً خطورة المراوغة الإسرائيلية وتداعياتها السياسية والقانونية على المدينة المقدسة. وعندما لُفت نظر السيد الرئيس من قبل أحد قادة اللجنة المركزية لحركة فتح حول أن هذا القرار قد أضاع فرصة فتح التاريخية في الفوز في الانتخابات وإنهاء ملف 2006، أجابه الرئيس بثقةٍ عالية بأن القدس أهم من الفوز في الانتخابات، وأنه لا يريد أن يُسجّل التاريخ عليه بأنه تنازل عن القدس في انتخابات عام 2021، لأن ذلك سيكون مقدمةً للتنازل عنها سياسيا. وبالمجمل، كان هذا القرار "فدائياً" ومفعماً بالمبادئ الوطنية والنضالية التي تُرفع لها القبعات وتنتصب لها الهامات، إحقاقاً لحق الفلسطينيين في التحرر من الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.