في السنوات الأخيرة، وفي كل مرة أزور فيها القدس كنت أصر على التجوال في الحي المقدسي الرائع، حي الشيخ جراح، وفي كل مرة كنت أزداد عشقا لهذا الحي، الذي يفوح من حاراته ومنازله عبق التاريخ، وتشعر في كل خطوة لك بعراقة المكان وأنت تدقق في التفاصيل المعمارية الجميلة، في البيوت، والفيلات، وروعة الحدائق التي يتدلى على أسيجتها زهر الياسمين. وفي السنوات القليلة الماضية وعندما كان قريب لي، حصل على جواز سفر اجنبي للتو وجاء الى القدس هاتفني وقال أنا هنا، وحجزت لك غرفة إلى جانب غرفتي في فندق (الأميركان كولوني)، وهو فندق عريق يقع في الشيخ جراح، ورحت اقوم بدور الدليل السياحي له، وأستطرد بالشرح عن العائلات الفلسطينية التي بنت هذه البيوت الجميلة، التي تكاد تنطق بأسماء اصحابها لانها مثلهم بالهوية.

هذا الحي العربي الفلسطيني العريق لم يتركه الاحتلال الإسرائيلي على حاله، وبدأ باستهدافه مباشرة بعد احتلاله للقدس عام 1967. إلا أن هذا الاستهداف قد ازداد شراسة في العقدين الأخيرين، والآن وبعد الاعلان المشؤوم للرئيس الأميركي ترامب في نهاية عام 2017، بأن (القدس عاصمة لإسرائيل) اخذت عمليات التهويد طابع التطهير العرقي الواسع للفلسطينيين في هذا الحي، وفي القدس الشرقية بشكل عام، والهدف هو إنهاء وجود الأحياء العربية المحيطة في البلدة القديمة من القدس، وهي أحياء الشيخ جراح، ووادي الجوز ورأس العامود، وسلوان، واستبدالها بإقامة ما تطلق عليه سلطة الاحتلال بالخارج اليهودي، أي إقامة أحياء يهودية مكان تلك العربية الفلسطينية.

في حي الشيخ جراح تجري اليوم جريمة حرب بشعة، عبر إجبار عشرات العائلات الفلسطينية على ترك منازلها بالقوة ـ وإسكان مستوطنين يهود مكانهم. إن ما يجري أمام مسمع ونظر المجتمع الدولي هو عملية تطهير عرقي، إنها عملية انتزاع مواطنين هم أصحاب البلد والأرض، فهذا بحد ذاته انتهاك سافر لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تمنع سلطة الاحتلال من القيام بعمليات نقل للسكان الأصليين في داخل الاقليم المحتل.

هذا الحي المقدسي الفلسطيني العربي الصامد يقاوم سياسة التوسع والتهويد الإسرائيلية منذ 53 عامًا، تمامًا مثل باقي مناطق القدس والأرض الفلسطينية المحتلة. ولكن استهداف الشيخ جراح هو استهداف للذاكرة الوطنية الفلسطينية، استهداف لجذور وتاريخ عائلات فلسطينية عريقة، لتراث ثقافي وعمراني، تماما كما فعلوا عام 1948 في أحياء القدس الغربية، في البقعة والقطمون والطالبية.

بالمناسبة الشيخ جراح سمي بهذا الاسم نسبة للطبيب الذي يرافق صلاح الدين، واسمه حسام الدين بن شرف الدين عيسى قبل 900 عام، ومن ثم تحول المكان إلى قرية فلسطينية لا تبعد عن أسوار القدس سوى ثلاثة كيلومترات من الشمال. وفي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين أصبحت القرية حيا من أحياء القدس وأخذ اسمه الشيخ جراح. ومن نافل القول إن الشاعر العراقي معروف الرصافي قد أقام في الشيخ جراح فترة وجيزة في قصر الأديب الفلسطيني إسعاف النشاشيبي. لا أدري إن كان العرب يسمعون النداء، خصوصًا بعد أن طبع بعضهم علاقاته مع دولة الاحتلال، نداء للضمير العربي والعالمي.. (انقذوا الشيخ جراح.. انقذوا القدس)

نداء للأمم المتحدة المسؤولة عن احترام العالم لميثاقها وتنفيذ قراراتها، وهو الميثاق والقرارات التي تحرم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.

لن يركع الشعب الفلسطيني وسيواصل صموده على أرض وطنه التاريخي فلسطين وفي عاصمته الأبدية القدس، وفي حي الشيخ جراح، وفي المرات القادمة سأمشي هناك على مهل، في شوارع وأزقة هذا الحي الفلسطيني الجميل، وأعانق كل عائلة كل فرد فلسطيني، المنازل وحدائق المنازل لأنها نحن.

انقذوا الشيخ جراح انقذوا القدس.