في محاولة شبه جدية للمرة الأولى في تاريخ دولة إسرائيل الإستعمارية تحاول مجموعتان إسرائيلية وفلسطينية تجسير العلاقات البينية، وتقريب المفاهيم المشتركة، وهضم أو إبعاد التاريخ بهدف بناء قائمة واحدة لدخول ميدان الإنتخابات البرلمانية القادمة، والسعي للرد على القوى الرافضة مبدأ الشراكة من أبناء المجتمعين الإسرائيلي الصهيوني والفلسطيني العربي، والارتقاء بلغة الشراكة السياسية على أساس المواطنة، وردًا على العنصرية الصهيونية، وإلغاء "قانون أساس القومية للدولة اليهودية" العنصري، والتأصيل لقانون جديد يضمن المساواة الكاملة والمتكافئة لمواطني الدولة، ودفعًا لخيار السلام وصولاً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران عام 1967 إلى جانب دولة إسرائيل المارقة والخارجة على القانون. لذا قام الفريقان بتبادل الرسائل في محاولة منهما لتقريب المسافات فيما بينهما.
لكن من قرأ الرسالتين الإسرائيلية والفلسطينية وبشكل موضوعي وعقلاني، وجد أن كلا منها تعاني من الخطايا والنقص، فضلاً عن الحذر الزائد في تسمية الأشياء بمسمياتها، وحتى الإلتفاف على المفاهيم الناظمة للصراع، أو إسقاط مفاهيم ذات دلالات تتناقض مع حقائق الفكر والتاريخ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أولاً الرسالة الإسرائيلية، التي أرسلتها مجموعة "بريت" (التحالف) والمنشورة في صحيفة "هآرتس" في 24 أكتوبر 2020 (ترجمة د زياد درويش) لم تشر من قريب أو بعيد للنكبة الفلسطينية، وللقفز عن حقائق التاريخ جاء في الرسالة "لكننا لسنا مستعدين للبقاء محاصرين في الحسابات التاريخية." وهذا هروب واضح من أس البلاء، وقفز عن سابق تصميم وإصرار عن مركبات الصراع، التي حملت في طياتها كل الأخطار المحدقة بالسلام والتعايش والأمن المشترك. في حين أن الرسالة الفلسطينية العربية بدأت بالتاريخ، لكنها جانبت الصواب في وصف المعادلة السياسية، عندما استخدم محرروها نصًا غير دقيق للاقتراب مع النص الإسرائيلي الصهيوني، فجاء فيها " نحن أبناء هذه البلاد، هذا هو الوطن الذي لم نهاجر منه أو إليه قط. هنا ولد أبائنا وأبناؤنا، وهنا أنشىء تراثنا وتقاليدنا." وأضافت " إن إنشاء إسرائيل عام 1948 شكلت نقطة تحول في العلاقة بيننا." ثم انحرفت عن الحقيقة عندما إعتبرت قيام إسرائيل بمثابة "تحرير" للصهاينة اليهود، بنصها " كان عام تحريركم، هو عام مأساتنا." وتابعت بذات السياق الخاطىء والأعرج "جاء الإستقلال والنكبة متشابكين إلى الوجود." ومجرد الإعتراف الفلسطيني ب"تحرير" الصهاينة و"إستقلالهم" في وطننا الأم، الذي ليس لنا وطن غيره دون ملامسة الحقيقة، وتسميتها بشكل موضوعي كدولة كولونيالية إستعمارية، افقد البعد التاريخي دلالاته السياسية والقانونية، وانزلقت الرسالة في مطب المساومة السطحية والساذجة.
ثانيًا كلا الرسالتين وقعت في خطيئة المفاهيم، حينما تبنت كل منها مفهوم "الوطن القومي اليهودي" مقابل الوطن القومي الفلسطيني. وتكمن خطورة تبني مفهوم وعد بلفور، والذي كرسه "قانون أساس الدولة اليهودية" وصفقة القرن المشؤومة في الشق الفكري، الذي حاد عن حقائق التاريخ والتطور القانوني السياسي لبناء وإقامة الدول القومية. لا سيما وأنه مع دخول حقبة الدولة البرجوازية في عصر النهضة، أمسى الناظم للدولة المواطنة والسوق لا الدين. والتي ترتكز على اساس المساواة وفقا للعقد الإجتماعي بين البنائين الفوقي والتحتي بين الحكام والمحكومين. وبالتالي للاقتراب من مفاهيم الدولة كان يجدر بالرسالتين تثبيت وترسيخ مفهوم الدولة الإسرائيلية، أو حملة الجنسية الإسرائيلية، لإن الإصرار على اعتماد اليهودية ك"قومية" فيها خلل فاضح، وتكريس للمفاهيم المتناقضة مع العلم والمنطق والفكر والقوانين والشرائع الدولية، وتساوق مع المشرع الصهيوني، الذي اغتصب الديانة اليهودية للترويج لمشروعه الإستعماري وعلى حساب مصالح أتباع الديانة اليهودية وأبناء الشعب العربي الفلسطيني على حد سواء. ولنعد للمشروع الإستعماري في جنوب افريقيا أو الجزائر أو غيرها من النماذج الإستعمارية المشابهة، لم يتم الإقتراب نهائيا من الموضوع الديني.
ثالثًا وقعت رسالة مجموعة "بريت" الإسرائيلية في خطيئة أخرى عندما حاولت تحميل الفلسطينيين العرب جزءً من المسؤولية عن غياب الشراكة حتى الآن، وجاء فيها "كما تتحمل القيادة العربية بعض المسؤولية عن هذا الوضع." وانا اسأل الموقعين على الرسالة، كيف؟ وعلى أي أساس يتم تحمليهم المسؤولية؟ هل وجد الفلسطينيون العرب منذ قامت دولة الإستعمار الإسرائيلية في عام النكبة 1948 نافذة ولو صغيرة لتجاوز جراحهم ومآسيهم ونكبتهم، أم خضعوا على مدار ال72 عاما الماضية لمزيد من التنكيل والبطش والعنصرية، وشطب حقوقهم السياسية والقانونية والثقافية والتاريخية، ومواصلة القيادات والمجتمع الصهيوني بما في ذلك الأحزاب والنخب بتلاوينها المختلفة التشبث بتزوير حقائق التاريخ، وطمس الهوية الوطنية الفلسطينية. ولنأخذ نموذجًا فلسطينيا للدلالة على ما اؤكد عليه، أبناء الشعب الفلسطيني من المعروفيين (الدروز) وبعض البدو، الذين انخرطوا في صفوف الجيش الإسرائيلي، وتماهوا مع خيار الدولة الإستعمارية، هل تعاملت معهم الحكومات الإستعمارية الإسرائيلية المتعاقبة يومًا كجزء أصيل من مواطني الدولة أم إعتبرتهم مع الشركس وغيرهم مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، وهذا امامكم قانون "القومية الأساس" انعكاسًا لهذة الحقيقة. إذًا أين هو المنطق في تحميل القيادات الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة جزءً من المسؤولية؟ أن مجرد القبول بذلك، يعتبر فضيحة ونقيصة، وقلب للحقائق رأسًا على عقب.
لا أريد أن أستفيض أكثر في تفنيد الخطايا والأخطاء، ومع ذلك أود الإشارة إلى ان الرسالتين حملتا بعدًا إيجابيًا، يمكن من خلال الحوار المتواصل والمسؤول، وإن توفرت الجدية من كلا المجموعتين وخاصة الإسرائيلية الوصول إلى تعزيز وتطوير القواسم المشتركة. وهذا يحتاج إلى جهد وإستعداد عالي للإعتراف بحقائق التاريخ أولاً، والبناء عليها ثانيًا، وتعزيز العمل المشترك على الأرض وفي الميدان ثالثًا، وإلغاء وإسقاط كل القوانين العنصرية رابعًا، الإعتراف بحقوق المواطنة والمساواة الكاملة لإبناء الشعب العربي الفلسطيني خامسًا، والتخلي والتوقف كليا عن السياسات الإستعمارية بشكل جذري سادسًا، والإستعداد لبناء ركائز السلام العادل والممكن وفقا لقرارات الشرعية الدولية لتكريس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967 سابعًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها