عمليات القتل في المجتمعات البشرية ليست جديدة، ولا هي طارئة، أو تخص مجتمعًا دون غيره، العكس صحيح، بل هي ظاهرة عامة ولها أسبابها ودوافعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسيكولوجية والعنصرية ... إلخ. وتتمايز حدة ونسبة عمليات القتل بين مجتمع وآخر ارتباطًا بنواظم وقيم وضوابط كل مجتمع. وليس بالضرورة أن تكون المجتمعات الأكثر تطورًا أقل عنفًا وفتكًا في بني الإنسان، بل ربما قد تكون أكثر قسوة، وأشد ضراوة على المجتمع. ومازالت المجتمعات المختلفة تعاني من تفشي هذه الظاهرة، وتحاول إيجاد حلول لها بين القانون والإصلاح والعقاب وترشيد الوعي المجتمعي. لكن عوامل النجاح بقيت تراوح مكانك عد، ولم تتمكن من إحداث طفرة نوعية في وقف النزيف الدموي الناجم عن تلك الجرائم.
غير أن جرائم القتل تزداد شراسة ووحشية وفي عدد الضحايا في المجتمعات المنقسمة على نفسها، وتضربها التناقضات التناحرية العنصرية، والخاضعة لسيطرة الاستعمار، لأن الدولة المستعمرة وأجهزة أمنها لها مصلحة استراتيجية في تعميق التشرذم السياسي والاجتماعي والثقافي في أوساط الشعب الواقع تحت نير احتلال، وتعمل وفق منظومة أمنية لتأجيج النزعات والنعرات الاجتماعية الأشد بؤسًا وتمزيقًا للمجتمع لتضاعف من تعميم وتفشي ظاهرة القتل في أوساط المجتمع المستلب الإرادة من خلال دورها المباشر في تقديم الإمدادات التسليحية، أو بِشكلٍ غير مباشر من خلال أدواتها المتورطة معها في الجريمة ولحسابات ضيقة جدًا، أو عبر الصمت وعدم الملاحقة لمجرمي عمليات القتل، وغض الطرف عنهم.
وما ورد أعلاه يجد انعكاسه المباشر في أوساط أبناء الشعب الفلسطيني داخل دولة الاستعمار الإسرائيلية، حيث يلاحظ تفاقم ظاهرة جرائم القتل بين الجماهير الفلسطينية، وارتفاع معدلها ومنسوبها هذا العام بِشكل ملحوظ، حيث قتل ما يقارب الـ55 إنسانًا فلسطينيًا حتى الآن بدم بارد من قبل عصابات وعملاء الاستعمار الإسرائيلي، فضلاً عن عمليات القتل الناجمة عن النزعات العشائرية والقبلية والتخلف الاجتماعي والثقافي. والدوافع والعوامل من خلال السياق العام متعددة، لكن أبرز أسباب عمليات القتل يعود إلى: أولاً أجهزة الأمن الإسرائيلية خاصة الشرطة و"الشاباك"، التي تقوم بتأمين ما نسبته 90% من سلاح الجريمة لمرتكبي تلك الجرائم، الدولة الإسرائيلية تعترف بأن نسبة 70% من السلاح من مخازن أسلحتها؛ ثانيًا عمليات التضييق الاجتماعي على أبناء الشعب في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل من خلال رفض إعادة النظر في الخرائط الهيكلية للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وخنق الجماهير الفلسطينية عبر زيادة الاكتظاظ السكاني داخل بيوت ضيقة تنتج ردود فعل عنيفة؛ ثالثًا عدم قيام أجهزة الأمن الإسرائيلية عمومًا والشرطة خصوصا بملاحقة مرتكبي الجرائم، والتغطية عليهم، وتقديم الدعم في غالب الأحيان لهم بشكل مباشر وغير مباشر؛ رابعًا ارتفاع نسبة البطالة، وزيادة عمليات الإفقار للجماهير الفلسطينية. لا سيما وأن عمليات التمييز العنصري في الوظيفة والراتب بين المواطن الفلسطيني العربي وبين الإسرائيلي الصهيوني ولصالح الأخير في مناحي الحياة المختلفة تفاقم من ردود الفعل والسخط في أوساط الجماهير، وغالبًا تأتي ردود الفعل في الداخل الفلسطيني؛ خامسًا عصابات الجريمة المنظمة في أوساط المجتمع الفلسطيني، وصراع عائلات المافيا هنا وهناك تساهم مساهمة كبيرة في ازدياد نسبة الجريمة. لا سيما وأن تلك العصابات والعائلات ترتبط مع رجالات الشرطة بعلاقات إيجابية؛ سادسًا الطابور الخامس والعملاء، الذين يقومون بين الفينة والأخرى بإشعال فتيل الفتنة في أوساط العائلات الفلسطينية والقوى السياسية والاجتماعية المتباينة؛ سابعًا التخلف الاجتماعي والثقافي والقانوني في أوساط الجماهير يلعب دورًا مساعدًا في تغذية هذه الظاهرة الخطيرة بين أوساط الشعب.
وهذه العوامل والأسباب ستسمعها من كل إنسان أو مجموعة أو حزب فلسطيني عربي داخل أراضي الـ48. وغالبًا نلقي باللوم على البعد الإسرائيلي الاستعماري، وهذا صحيح من حيث المبدأ. لكن لا يجوز ونحن نحمل رئيس الحكومة الفاسد نتنياهو ووزير الشرطة والأمن الداخلي أوحانا وغيرهم المسؤولية عن جرائم القتل، أن تبقى القوى السياسية والاجتماعية والنخب الثقافية والأكاديمية مكتفة اليدين في انتظار أن تأتي الرحمة من المستفيد الأول من عمليات القتل داخل أوساط المجتمع الفلسطيني، صعب لا بل مستحيل أن يقوموا بالجهد المطلوب، بل العكس صحيح ليغذوا الجريمة المنظمة. وعليه فإن الحل يكمن حسبما أعتقد في: أولاً تشخيص الأسباب والعوامل وخلفيات عمليات القتل؛ ثانيًا تحديد بؤر الجريمة الأكثر انتشارا وفتكا؛ ثالثًا دعوة عامة تقودها لجنة المتابعة العربية العليا والمجالس القطرية وأعضاء القائمة المشتركة مع النخب السياسية والثقافية والإعلامية لوضع الآليات لمحاصرة الأشخاص والعائلات الأكثر خطورة تحت المراقبة ووضع خطة تثقيف توعوية لها ولأبناء الشعب عموما في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل؛ رابعًا ملاحقة وتعرية العملاء والجواسيس والطابور الخامس بشكل منظم ودوري، وعزلهم عن المجتمع في المدن والقرى والبلدات؛ خامسًا السعي لطرد العصابات من المجتمع الفلسطيني أو التوبة والعودة لرشدهم الوطني؛ سادسًا تكثيف الملاحقة للجهات الحكومية المتورطة والمسؤولة مباشرة عن أمن وسلامة المواطن الفلسطيني تحت قبة الكنيست وفي كل المنابر السياسية والاجتماعية والثقافية؛ سابعًا تنظيم المظاهرات والاعتصامات ضد الجرائم والعصابات المختلفة، وتسميتهم بالاسم حتى يكونوا عبرة لمن لا يعتبر ... إلخ.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها