استشراف المستقبل عملية ليست سهلة، ولكنها أيضًا ليست صعبة ولا معقدة إذا ما تابع المختص الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية والأخلاقية والأمنية والسياسية. ويكون ذلك بتلمس السلوكيات والتداعيات التدريجية المتدحرجة لِبلوغ نقطة الذروة في التحول من التراكم الكمي إلى اللحظة النوعية في هذه الظاهرة أو تلك.

مما لا شك فيه، أن العالم شهد نقطة التحول في الربع الأخير من عام 2008، مع حدوث الأزمة الاقتصادية الكارثية في الولايات المتحدة الأميركية والتي عكست نفسها على الغرب الرأسمالي والعالم عمومًا. لكن الرأسمالية تمكنت خلال الأعوام الإثني عشر الماضية من ترميم مقدراتها، وتمكنت من تجاوز السقوط والانهيار السريع بفضل النجاحات النسبية، ما مكنها من المحافظة على صورتها ومكانتها كقائدة للعالم من خلال العولمة. رغم أن الدول الإمبريالية لم تتعافَ من أزمتها، وبقيت ملازمة لها، ولم تكن بالمعنى الحقيقي بِخير، لأن الأزمة بقيت ناشبة أظفارها في الجسد الرأسمالي، وانعكس ذلك في أكثر من مظهر، منها أولاً، صعود اليمين القومي في أميركا وأوروبا على حد سواء، وتعزيز مكانته الآيديولوجية والسياسية والثقافية؛ ثانيًا، مع صعود "الترامبية" مطلع 2017 تجلت الأزمة بِشكلٍ أعمق، ومن أبرز مظاهرها: 1- رفع شعار "أميركا أولاً "، ليس هذا فحسب، إنما سَّيد الخطاب العنصري في الداخل الأميركي، وسعى لتهميش دور القانون والقضاء، والهيئات التشريعية، وأيضا عزز الخطاب الديني الميثولوجي، وربطه بالسياستين الداخلية والخارجية، والذي تجلى بأجلى صوره في معالجة إدارة ترامب المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، مع انحيازه الكلي لخيار أسطرة السياسة والحل، وذهب بعيدًا مع الحل الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني؛ 2- فتح جبهات صراع مع حلفاء الأمس في دول الجوار كندا والمكسيك ومع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ ثالثًا، وسع دائرة الحروب مع الصين وروسيا الاتحادية وإيران والعالم العربي وكوريا الشمالية؛ رابعًا، استخدام لغة راعي البقر الكاوبوي من خلال فرض الإملاءات على الدول والشعوب، وهنا تجاوز اللغة الدبلوماسية الناعمة، وذهب إلى قيم قاطع الطريق؛ خامسًا، أخرج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي، وهذه الخطوة ليست معزولة عما سيليها من خطوات أثناء وبعد انتهاء أزمة فيروس الكورونا؛ سادسًا، همش بِشكلٍ واضح دور هيئة الأمم المتحدة، وخرج من العديد من المنظمات الأممية منها: اليونيسكو، ولجنة حقوق الإنسان الأممية، وهدد محكمة الجنايات الدولية بعظائم الأمور في حال تدخلت في الشأن الإسرائيلي، وحاكمت أيا من القيادات الإسرائيلية المتورطة بِجرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، وضرب عرض الحائط بالاتفاقيات الدولية، فخرج من اتفاقية المناخ، واتفاقية 5+1 (الملف الإيراني)، وخرج من اتفاقية "نافتا" الأميركية المكسيكية الكندية، واتفاقية التجارة الحرة يتجه بخطى حثيثة للخروج منها؛ سابعًا، اعتمد سياسة العصا الغليظة لتطويع الدول، وحتى أسلوب الجزرة لم يعتمده إلا ما ندر، وخشية عدم تمكنه من تنفيذ مآربه، ونتيجة امتلاك الدول مثل إيران وكوريا الشمالية القوة الكفيلة بردع القوة الأميركية.

بالمقابل تمت ملاحظة تطور مهم في مكانة ودور القوى والأقطاب الدولية، فالصين أمست ندًا قويًا لا تستطيع الولايات المتحدة، ولا دول الاتحاد الأوروبي تجاوزها، أو إدارة الظهر لها. وتعزز الموقع الصيني مع ولوجها مرحلة (G5)، وانعكاسات ذلك على الدول الأخرى، فقامت إدارة ترامب بفتح حرب الضرائب لتعطيل دورة الاقتصاد الصيني. لكنها فشلت في تحقيق مآربها. وتمكنت الصين من إحكام الطوق حول الرقبة الأميركية الأوروبية من خلال سياستها الناعمة. وأيضًا بِفضل طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق) الذي يربط حوالي 150 بلدًا مع السوق الصينية. كما أن روسيا خلال العقد الماضي لم تعد روسيا الاتحادية العقد الأخير من الألفية الماضية. بل يمكن الجزم أن "البوتينية" لعبت دورًا مهما في استعادة مكانة روسيا كقطب أساسي في المعادلة الدولية، وتمكنت روسيا من توجيه ضربة لأميركا ودول الاتحاد الأوروبي بِسيطرتها على إقليم القرم، وأيضًا بتحجيم دور ومكانة أوكرانيا ودول البلطيق وآسيا الوسطى، وردت في ذات الوقت على نشر أميركا الصواريخ في بولندا وغيرها من دول أوروبا الشرقية بالمثل. كما أنها فرضت وجودها في منطقة الشرق الأوسط كلاعب رئيس من خلال تدخلها في سوريا، وأيضا تأكيد حضورها المتزايد في كل من مصر وليبيا والجزائر وغيرها من دول الإقليم، وقدرتها (روسيا) على التطويق اللين للسلطان التركي الجديد، أردوغان .. إلخ. وللحديث بقية حول التطورات الجديدة.