"كل فكرة ولدت في لندن اختبرت في أميركا من قبل المنظمة الصهيونية، وكل اقتراح صدر من أميركا لقي أشد العناية والاهتمام في لندن". هذا ما كتبه ناحوم سوكولوف أحد زعماء الحركة الصهيونية في كتابه "تاريخ الصهيونية". فلم يكن وعد بلفور الذي ساهم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في صياغته والموافقة عليه قبل اعلانه والذي كرس قيام الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية إلا قرارا أميركيا "أشرفت" عليه بريطانيا حين كانت الدولة صاحبة الانتداب في المنطقة وما أطلقه ترامب عما سمي ـ "صفقة القرن" في العام 2017 ما هو إلا استكمال وتكريس لهذا الوعد بمرور مئة عام عليه.

 

واستنادا عليه، فكل ما بشر ترامب الفلسطينيين به هو حكم ذاتي مخملي ملغوم ببعض الحقوق المدنية والدينية وبعيد كل البعد عن الحقوق السياسية، حتى ان الدويلة الفلسطينية التي أسهب في الحديث عنها ستكون حدودها خاضعة للسيطرة الاسرائيلية.  

 

ثمانون صفحة في مشروع "صفقة القرن" ما هي إلا "إعلان" لاتفاق ثنائي تاريخي بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل. ولما كان هذا الاعلان غير صادر أو موقع من جهة أو هيئة دولية جامعة تراعي حقوق ومصالح الدول لا يمكن ان يرتقي الى مستوى القرار النافذ والشرعي الذي يحتم على أي دولة تنفيذه.

 

كل ما سلب من حقوق الشعب الفلسطيني حتى يومنا هذا كان بفعل الاملاء والتسلط، وإذ يبقى الموقف الفلسطيني هو الأساس في التصدي لكل المؤامرات التي تحيكها الادارة الأميركية تتوقف لغة التفاوض عند حدود التلاعب برمزية القدس التاريخية والدينية كعاصمة لفلسطين ومخطط استبدالها في أبو ديس وعند شطب حق العودة للاجئين الى وطنهم الأم وهذا ما يبدو منطقيا بوجه من لو أتيح له أن يهدي سماء فلسطين لما توانى.

 

لقد أثبتت الإدارة الأميركية فشلها في التعاطي مع الملف التفاوضي الفلسطيني الاسرائيلي الذي إدارته بانحياز تام الى اطماع دولة الاحتلال متخطية مرارا المجتمع الدولي بمنظماته ومعاهداته، التي تمكن الفريق الفلسطيني وبمساع دبلوماسية شاقة وطويلة الأجل أن يكون عضوا فيها، ما ينزع عنها صفة "راعٍ للسلام".

 

موقف الرئيس الفلسطيني في جامعة الدول العربية في إعلان وقف العلاقات مع الإدارة الأميركية والإسرائيلية يتماهى مع الموقف الفلسطيني الشعبي في التصدي للغطرسة الأميركية والإسرائيلية ورفض التنازل عن حقوقه المتبقية في دولة فلسطينية على حدود عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية.

 

أهل الشتات الذين هجروا يومًا "وحسبوا العودة بالساعات والأيام يشكلون الجزء الاساسي من هذا الموقف الفلسطيني الجامع وهم خرجوا بعد اعلان ترامب لخطته كي يقولوا: (لا) مجدّدًا لأي مؤامرة تسقط حلم عودتهم التي رسموها على جدران مخيماتهم".

 

بالطبع فإنَّ الجانب الإسرائيلي سيواجه تطورًا كبيرًا في المواقف الفلسطينية، ولا شك أن اتفاق اوسلو قد سقط حكمًا ومن أسقطه هم الإسرائيليون الرافضون أصلاً لأي خطة تقوم على حل الدولتين ما ينفي الغرابة في سماع أصوات إسرائيلية تسجل رفضًا تامًا لأي خطة تعترف بشبر من أرض للفلسطينيين على أرضهم.

 

وعد بلفور الذي من مرتكزاته إقامة وطن لليهود على أرض فلسطين تترجم فصول تنفيذه على مراحل زمنية، وان ما سمي "صفقة القرن" يمهد لما هو أخطر وأبعد في المفهوم الصهيوني، أي دولة منزوعة من الفلسطينيين والحقوق العربية والإسلامية وبالتالي القدس بما تعنيه تاريخيا ودينيا من غير المسموح ان يساوم عليها، والأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم إذ إن التصدي لمشاريع الاحتلال في بسط سيادته على كامل فلسطين - وتفاديًا لبلفور آخر يطال أوطاننا تنكشف خططه بعد مئة عام - هو مسؤولية الأقطار العربية والإسلامية برمتها.