في مثل هذا اليوم عام 2002، سألتني زوجتي عن صوت انفجار ضخم سمعته ليلا وهي في مستشفى القدس بكفر عقب، قلت لها إن جيش الاحتلال فجر مقر "صوت فلسطين".

في خضم "انتفاضة الأقصى" حمل صوت فلسطين وكافة وسائل الإعلام الفلسطينية صوت الشعب المنتفض على الاحتلال، ولم يرق ذلك لقادته، فقتلوا صحفيين وفجروا مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون، وأطلقوا الرصاص من مستوطنة "بساغوت" عشرات المرات على مقر صحيفة "الحياة الجديدة" واعتدوا ودمروا عشرات المقار الإعلامية، وأصيب واعتقل المئات من الإعلاميين في سبيل إسكات كل صوت يقول "لا للاحتلال".

جاءوا بمصطلح التحريض، فحمل بنيامين نتنياهو في أواخر التسعينيات ملفا ضخما لنظيرته الأميركية مادلين أولبرايت، يضم ما وصفه بالتحريض الفلسطيني على إسرائيل.

ولاحقا طورت إسرائيل أنواعا من أدوات القمع لأي انتقاد لها، ففي عام 2005 صدرت الوثيقة المسماة "التعريف الأولي لمعاداة السامية"، ويستخدم هذا التعريف تحت مسمى مصطلح "معادة السامية الجديدة" الذي يضيف إلى التعريف الكلاسيكي "مظاهر أخرى لمعاداة السامية تتضمن انتقاد إسرائيل ومناهضة الصهيونية.

هذا التعريف وضعته مؤسسة أوروبية بالتعاون مع منظمات صهيونية وباحثين من جامعات إسرائيلية لكنها سحبته لاحقا مؤكدة أن لم يتم تبنيه من قبل الاتحاد الاوروبي، كما يدعي المدافعون عن الاحتلال. وتعرضت هذه المؤسسة لهجوم من إسرائيل عبر وزير خارجيتها افيغدور ليبرمان عام 2013، وعبر العديد من المنظمات الصهيونية في أوروبا والولايات المتحدة.

وتمكنت المنظمات الصهيونية من زرع هذا التعريف عبر أدواتها، ففي عام 2004 تبنته الخارجية الأميركية عبر قانون "رصد الممارسات المعادية للسامية في العالم"، وفي عام 2012 تبناه كونغرس ولاية كاليفورنيا لقمع الحراك الفلسطيني المناهض للاحتلال في جامعة ولاية كاليفورنيا، عبر تهديد الجامعة بقطع الدعم المالي الفيدرالي عن الجامعة إذا استمرت الفعاليات المناهضة للاحتلال فيها.

العام الماضي وإثر الانتقادات الشديدة التي اعتاد زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين توجيهها لسياسات إسرائيل، تمكن داعمو إسرائيل في خطوة للتضييق عليه من تمرير قرار في حزب العمال يتبنى فيه تعريف معاداة السامية الجديدة، الذي يطلقون عليه الآن "تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة النازية"، علما أن التعريف الكلاسيكي لمعاداة السامية (معاداة اليهود لكونهم يهودا) يكفي لمنع الممارسات العنصرية ضد اليهود، لكن الحاجة لأداة لقمع منتقدي إسرائيل كقوة احتلال دفعت مؤيديها للاستمرار بالضغط لتبني هذا التعريف، لا ليحمي اليهود المحميين في الكثير من الدول عبر القوانين المانعة للعنصرية على أساس عرقي أو ديني، بل ليقمع كل من يفكر بانتقاد إسرائيل كقوة احتلال.

لن يسلم كل من ينتقد ممارسات إسرائيل كقوة احتلال من تهمة "معاداة السامية"، فالآلة السياسية واللوبيات الصهيونية في العالم مكرسة لحماية الاحتلال، لكن كل وسائل الضغط والقمع هذه لن تمنع أيضا كل حر في العالم من انتقاد الاحتلال.

ثمانية عشر عاما مضت منذ فتحت ابنتي نور عينيها في "مستشفى القدس" للمرة الأولى على دوي تفجير "صوت فلسطين".

هي ذاتها الثمانية عشرة عاما التي مضت ليفتح قادة الاحتلال عيونهم على واقع جديد باتوا يخشون فيه من محاكمتهم على جرائمهم أمام "الجنائية الدولية" في لاهاي، فالظلم مهما طال سواد ليله.. لا بد أن يمحوه نور العدل.