عاشت الثقافة والمثقف زمنا أعجف، موحلا، أصفر وباهتا خلال العقود الماضية مع صعود وتسيد العولمة الأميركية المتوحشة بثقافتها الوضيعة واللاانسانية، وألقت بظلامها وغيومها السوداء على كل الكرة الأرضية، فعمقت البؤس والحرمان والفاقة والانقسامات، وسيدت ثقافة الاستهلاك، وعممت إعلاما رخيصا وشاذا، لا يمت بصلة لحياة وواقع الشعوب المكلومة والمضطهدة والجائعة للقمة الخبز، وفضاء الحرية والديمقراطية، ومزقت وحدة الشعوب والأوطان حيثما استهدفت شعبا أو أمة من الأمم.
وكان نصيب الأمة العربية وشعوبها الأكبر من عمليات القهر والظلم والاحتلال والاستبداد مع تفريخها وإنتاجها الجماعات التكفيرية، التي عاثت تخريبا وتمزيقا للأوطان والشعوب العربية باسم الدين والطائفة والمذهب، وكان نهب ثروات العرب، وتدمير بلدانهم، وتمزيق وحدة شعوبهم، وتسيد المشروع الكولونيالي الصهيوني على إرادتهم مباشرة، او من خلال تعميق سطوة انظمة التبعية العشائرية والقبلية والبطريركية والثيوقراطية، وأنظمة الاستبداد، لبناء نظام إقليمي جديد بعنوان "الشرق الأوسط الجديد أو الكبير"، وهو ما نجحت فيه نسبيا خلال العقود الثلاثة الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية، وهزيمة حركة التحرر العالمية والعربية بعد حرب الخليج الثانية 1991، ومن ثم احتلال العراق 2003، ونجاح حركة حماس في انقلابها على الشرعية الوطنية 2007، ومن ثم فتح كوة بركان ثورات الخريف العربي الأولى 2010 حتى الآن (2019)، واتسمت هذه المرحلة بتلاشي دور النخب والأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية والليبرالية، وخواء المشهد الثقافي، وارتداد الثقافة بشكل عام إلى عصور الانحطاط والتكفير والتجهيل والأمية الإسلاموية والمسيحانية الأفنجليكانية واليهودية الصهيونية، إلا ممن رحم ربي ممن ظلوا ممسكين بجمر الحرية والثورة.
لكن هذه السحابة القاتمة والملبدة بالغيوم تتجه نحو الانقشاع التدريجي، مع ولوج مرحلة جديدة من الثورات العربية في السودان والعراق ولبنان، ومحافظة تونس على خيارها الديمقراطي، والتحولات الإيجابية في الجزائر، وانكفاء دور جماعات التكفير عموما والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين خصوصا، وافتضاح الوجه القبيح للإسلام السياسي بمختلف تلاوينه ومشاربه وأنظمته البوليسية والتوليتارية الثيوقراطية السنية والشيعية، والانكشاف المتزايد لحقيقة إسرائيل الاستعمارية كدولة عنصرية وفاشية، ومع وصول الترامبية الأفنجليكانية الشعبوية والعنصرية، التي مثلت ابشع اشكال النظم الرأسمالية في المرحلة الراهنة، ومع تمكن الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية من هزيمة صفقة القرن المشؤومة، وإصرارها على تحقيق كامل الأهداف الوطنية في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة، ورفض كل اشكال المساومة الرخيصة على الحقوق والثوابت الوطنية.
هذه التحولات النوعية ما كان لها الحدوث إلا نتاج إدراك الشعوب بحسها العفوي ضرورة التصدي لحالة الانهيار والانحطاط، التي بلغت قاعا عميقا في اوساط شعوب الأمة العربية، ودفعتها للبدء بوضع صرارات صلبة لوقف التدهور أكثر فأكثر، حيث لم تعد تلك الشعوب تقبل بالمزيد من الغرق في مستنقع اللامبالاة والاستسلام لمشيئة أعدائها، الذين يحولون دون حريتها واستقلالها. وكأن لسان حال العرب الآن يقول: كفى للانحدار ومتاهات التشظي والتمزق والتبعية، ولا لكل الاحتلالات القديمة والجديدة، ولا لكل العمامات والقبعات من كل الأديان والطوائف، ولا لثقافة الموت على الهوية الدينية والطائفية، ولا لأنظمة الفساد والتخريب وامتصاص دماء وقوت الشعوب، ونعم للحرية والديمقراطية والاستقلال الحقيقي السياسي والاقتصادي والتنويري، ونعم للنهوض والتقدم، ومواكبة روح وسمة العصر، ونعم لبناء منظومة عالمية أكثر تسامحا وعدلا وتكاملا بين مختلف شعوب الأرض.
ومن الملاحظ أن العمليات الاجتماعية والسياسية الكيفية في العديد من دول العالم العربي حدثت في ظل غياب قوى التغيير الحقيقية الوطنية والقومية والديمقراطية والليبرالية، ومراوحة وتعثر الحالة الثقافية التنويرية الملتزمة بقضايا الشعوب. لكنها (التحولات) بدأت تشكل روافع حقيقية لاستنهاض تلك القوى، وبدأت تضخ في أجسادها روح الصحوة، واستنهاض الذات للخروج والتمرد على حالة التقوقع والانكسار. وهذا الاستشراف يمكن تلمسه في شوارع لبنان والعراق وقبلهما في السودان وتونس والجزائر، وهو ما يبعث على التفاؤل على تمددها في الساحات العربية الأخرى، وحتى في الشرق الأوسط الكبير بحيث تشمل إيران وتركيا وافغانستان وغيرها.
إذاً عملية التلاقح الوطني والقومي والديمقراطي يجري تعميقها الآن في زمن المخاضات الثورية ليتبوأ المثقفون وكل قوى التغيير دورا رياديا في استنهاض القيم الإنسانية المرتكزة على قواعد العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، ومبادئ الديمقراطية، وحماية البيئة، ومواجهة الحروب والاحتلالات الأجنبية، ومحاربة فساد الأنظمة السياسية، والعمل على إسقاطها، والتخلص من عفونتها ولعناتها وأخطارها على مستقبل الشعوب، وتعميم لغة ومفاهيم وقيم التسامح بين بني الإنسان. ولا يتوانون عن التصدي بشجاعة لعمليات التغول، التي تجاهر بها، وترتكبها الأنظمة الاستبدادية، وسادة الإرهاب في العالم أدعياء الدفاع عن "حقوق الإنسان" و"تعزيز الديمقراطية"، وانتشال الثقافة التنويرية من براثن الموت الكلينيكي.
حانت لحظة الحقيقة كي ينهض المثقف الوطني والقومي والديمقراطي الليبرالي في المشهد العربي، ليستعيد دوره التاريخي في رفع راية الحرية، ويهدم كل التبوهات الرجعية والصهيونية والإمبريالية، ويقتلع جذور كل قوى الردة الدينية والطائفية والمذهبية، ويعيد الاعتبار للوطنيات الحقة والديمقراطية المتعاضدة والمتكاملة مع روح الثقافة والمشروع القومي النهضوي. لم يعد مقبولا خفت الصوت، والبقاء في دائرة الاستسلام والخنوع لإملاءات أنظمة القمع والرذيلة والفساد بكل صنوفها ومسمياتها. وبات لزاما على المثقفين وقوى التغيير إطلاق العنان لروح العطاء، والتخلص من أمراض مرحلة الهزيمة والترهل والضياع، والكف عن البحث عن الذات داخل اروقة أنظمة التدليس المأفونة، والتوقف عن بيع اقلامها رخيصة في سوق النخاسة والشعوذة والعربدة والتكفير والتخوين. وعليهم جميعا الإمساك بجمر الثورة والتغيير، والدفاع عن خيارهم، وخيار شعوبهم وامتهم لتنعم بالحرية والاستقلال تحت الشمس.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها