يضخ الإعلام العربي والعبري في الأيام الأخيرة جرعات متكررة من "الأمل"، تتحدث عن قرب التوصل إلى صفقة تفتح الباب أمام هدنة إنسانية في قطاع غزة، وربما اتفاق ينهي الحرب، ويضمن انسحاباً إسرائيلياً وإعادة تشكيل إدارة للقطاع. تتوالى هذه الأخبار على وقع تسريبات من "مصادر رفيعة"، و"أوساط مطلعة"، وكأن لغة الغموض المقصود أصبحت بديلاً عن الحقيقة، فهذا النمط من الخطاب لا يعكس مصداقية، بقدر ما يُشير إلى محاولات جسّ نبض أو خلق رأي عام متقبّل لمخرجات لم تُولد بعد، وربما لن تُولد أصلاً. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود تحركات على الأرض، خاصةً بعد اللقاء الذي جمع نتنياهو بالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في واشنطن، حيث طُرح ملف غزة ضمن حزمة ملفات إقليمية أشمل، وعلى رأسها العلاقات الأميركية السعودية، والمحادثات النووية مع إيران.
إن إنهاء الحرب في غزة لم يعد شأناً ميدانياً، بل بات ملفاً دولياً بامتياز، تجتمع فيه خرائط المصالح، ومراكز النفوذ، ومعادلات الردع والربح. غزة، في أعين اللاعبين الدوليين، ليست إلا بنداً في صفقة كبرى، لا يهم فيها دم الأطفال بقدر ما تهمّ توازنات القوة والهيمنة.
وسط هذا المشهد المعقد، تواصل مصر أداء دورها المحوري كوسيط ثابت. ورغم سقوط مقترح ويتكوف في الفراغ، عادت القاهرة لتطرح مقترحاً عاجلاً جديداً، في محاولة لإنقاذ مسار التفاوض من التعثر. إصرار مصر على إبقاء الخط مفتوحاً لا ينبع من تفاؤل مفرط، بل من إدراك عميق بأن التأخير يعني اتساع رقعة الدم، وتعاظم الانهيار في القطاع المنهك.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن الوفد الإسرائيلي لم يدخل بعد في مفاوضات حقيقية، بل يراقب عن بعد، فيما تحاول مصر عبر اتصالاتها وجهودها إعادة ضبط المشهد التفاوضي، ووضع الإطار المناسب لمرحلة ما بعد الحرب، حيث يُطرح بقوة تشكيل لجنة إسناد مدنية لإدارة غزة، في ظل غياب أي توافق فلسطيني داخلي على رؤية مشتركة.
لكن في قلب هذه التحركات، وفي ظل ازدحام الطاولات والوساطات، يبقى الواقع الميداني في غزة شاهداً على مأساة تُصنع على مرأى العالم، بل بمباركته أحياناً. تمددُ مناطق الإخلاء يوماً بعد يوم، والتهجير الممنهج يتكرر على لسان قادة الاحتلال كهدف مشروع، في وقت يستخدم فيه المدنيين كورقة ضغط علنية.
الأخطر من ذلك، هو الدور الذي باتت بعض وسائل الإعلام العربية تؤديه دون خجل: خطاب يُساوي بين الجلاد والضحية، ويُفرغ المعاناة الفلسطينية من معناها الإنساني والسياسي. التناول الإعلامي لبعض القنوات والمنصات لم يعد ناقلاً للخبر، بل أصبح جزءاً من الجريمة ذاتها. تغطيات تُضخِّم التفاصيل وتُهمِّش الكارثة، وتُقدِّم غزة كأزمة إنسانية عابرة، لا كجريمة متواصلة تستحق الغضب والعدالة.
اليوم، وبين انتظار الهدنة ودماء الواقع، يحتاج المشهد إلى وضوح أخلاقي قبل أي صفقة. تحتاج غزة إلى موقف عربي حقيقي، لا إلى حوارات فندقية وتغريدات مسكنة. نحتاج إلى إعلام لا يخشى الحقيقة، بل يرفعها صوتاً في وجه القتل الجماعي، لا أن يُصقل منابر الأكاذيب على جماجم الأطفال. فالوقت ليس للرهان على النوايا، ما لم تكن هناك إرادة دولية صادقة تضع حداً للعدوان، وتحمّل إسرائيل مسؤوليتها الكاملة، وإعادة غزة إلى مشروع وطني فلسطيني شامل.
وفي المقابل، فإن حركة حماس، مطالَبة بأن ترتفع بوعيها الوطني إلى مستوى اللحظة التاريخية، وتدرك أن مصير غزة لا يُحتكر، وأن مستقبل الفلسطينيين لا يُدار بخطاب الشعارات وحده. آن الأوان أن تخرج حماس من منطق الفصائل إلى أفق الشراكة الوطنية الشاملة، وأن تُقدم المصلحة الوطنية العليا على أية اعتبارات تنظيمية أو أيديولوجية. فغزة ليست ورقة في يد أحد، بل روح هذا الشعب، وقلب قضيته.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها