ثمّة الكثير الذي يمكن أن يُقال عن التصعيد الأخير في غزّة، لكنَّ المؤكَّد أنَّ الأمر، في كلِّ الحالات، أبعد من مجرّد تصعيد تتفاعل فيه الأحداث حتى تصل إلى التفجير. وربما لا تكون الأطراف جميعًا معنية بالتصعيد أو أنّها ليست معنية بنفس الدرجة، لكنّ الحقيقة أنّ ما يجري لا يتم وقف نسق اعتباطي. يرتبط الأمر أكثر بطبيعة علاقة دولة الاحتلال مع غزة والحفاظ على الوضع الراهن والعمل على خلق معادلة تكيّف معه بما يحمي المصالح الحيوية التي على رأسها الحفاظ على الانقسام الفلسطيني بوصفه من يعيق تقدم الفلسطينيين، كما يرتبط بطريقة أو بأخرى بطبيعة التفاهمات التي تتم في غزة والتي تضمن استمرار وتيرة العلاقات ضمن نسق خاص. وعليه هل يمكن اعتبار ما يجري خروجًا عن هذا النسق؟ ربما أيضًا من باب تسطيح الأمر اعتبار هذا صحيحًا، إذ إن الفحص المستمر للعلاقة ولطبيعتها بات سمة بارزة في تحديد بوصلة ما يجري في غزة. بمعنى أنَّ التصعيد بين فينة وأخرى على قطاع غزّة –إذ لا يجوز القول التصعيد في غزة بل على غزّة- كان يتم ضمن خطة محكمة لفحص مدى التزام "حماس" بالتفاهمات التي تعني ضرورة عدم الوصول إلى لحظة الاشتعال. قد يبقى اللهب مستمرًا لكنه لا يفجر المكان. بهذا الفهم كان دائمًا يتم التحكم في مستوى اللهب كما درجة العادة.
وخلال ذلك كان الإحساس الإسرائيلي يميل للشك بمدى التزام الطرف الفلسطيني في غزة، وعليه كان يجب دائمًا فحص قواعد اللعبة أو التأكد من وجودها وعدم تغيرها. وفي حقيقة الأمر، فإنَّ قواعد اللعبة لم تكن يومًا منصفة للفلسطينيين إلّا على مستوى الخطابة والبلاغة، إذ إنّها كانت تعطي إسرائيل الحق في الاجتياح الموضعي ومهاجمة سفن الصيادين واعتقال العشرات منهم، ومداهمة المناطق الزراعية على الحدود، وقصف مناطق في قطاع غزة بحجة إطلاق صواريخ منها وربما بحجة النية لفعل ذلك، وفي إغلاق المعابر وإطلاق النار الوحشي على المتظاهرين السلميين قرب السلك الحدودي شرق غزة، وغير ذلك بجانب عدم التقيد بأي شيء تم التوصل إليه في اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم عقب العدوان الهمجي على غزة عام 2014. في المقابل، فإن أي تصرف فلسطيني لن يقابل إلا بموجات عنيفة من القصف والقتل والترويع. وبشكل عام لا يمكن التوقع من الاحتلال غير ذلك، لكن أيضًا يجب توقع أن يكون فهمنا لطبيعة ما يجري أعمق من مجرد التفسير اللحظي. ومن المؤكد أنَّ أهم قواعد اللعبة أيضًا تشمل عدم الخلط بين ما يجري في الضفة الغربية والقدس وما يجري في غزة. يمكن أن تدفع غزة ثمن عملية فدائية في الضفة الغربية بدواعٍ كثيرة وهذا من حق الاحتلال الذي يملك حق الخلط بين ما يجري هنا وما يجري هناك، لكن لا يجوز للأطراف في غزة أن تطلق قذيفة واحدة ردًا على اقتحام مئات المستوطنين ببساطيرهم لباحات المسجد الأقصى فلا علاقة لهذا بذاك. ما أرمي إليه أن قواعد اللعبة لم تكن يومًا منصفة، ومع هذا فإنَّ إسرائيل دائمة القلق للتأكد من أنّه يتم الالتزام الكامل بها وبكفاءة عالية. هل هذا يعني أنَّ علينا أن نغير قواعد اللعبة؟ أظن أنَّ الإجابة عن التساؤل السابق بحاجة لعمق أكبر لأنّها يجب ألا تنبع من ردة فعل، بل من بحث حقيقي داخل أنفسنا عما نريد كفلسطينيين وما نتطلع إليه.
مرة أخرى، هل ما يجري في غزة منذ نهاية الأسبوع يقع ضمن هذا النسق؟
ضمن أشياء كثيرة، فإن هذا يعني أن ثمة معطيات جديدة قد يمكن النظر من خلالها إلى التصعيد الأخير بنظرة مختلفة. المؤكد أنه لا يمكن إغفال الانتخابات الإسرائيلية ووقع ثقلها على ما يجري. دائمًا كان السياق الفلسطيني مسرحًا لتجارة الانتخابات وللمزايدات، فالأحزاب الإسرائيلية تتنافس في إراقة الدم الفلسطيني واستباحة الحرمات الفلسطينية، سواء من خلال التصريحات أو الدعوة إلى التدخل من أجل إراقة الدم وقتل الفلسطينيين. ومنذ فجر الأزمة ببدايات الاستيطان وبعد ذلك مذابح النكبة لم تتوقف هذه المزايدات، وكان الدم الفلسطيني المادة الأسرع رواجًا في المزاد الانتخابي الإسرائيلي ولم يكن يخلو الأمر من وعود ومن تدخل لتنفيذ هذه الوعود حتى خلال الحملات الانتخابية.
هذا المرة ثمة رئيس وزراء جريح يعرف أن الأصفاد يتم تجهيزها حتى تلتف على معصميه. يعرف أن السجن أقرب إليه من طاولة "الكابينيت" بعد انتهاء فرز الأصوات. وقد لا يتم ذلك، لكنه وارد بنسبة كبيرة، لذا فإنّ القفز من الشباك قد يحمل الكثير من الفرص، إذ إنه أفضل من تسليم الرقبة للمشنقة، وعليه فإنَّ المجازفة بحرب شرسة على غزة، ربما ضمن تكتيك معيّن يسمح بعدم الخسارة المؤلمة قد يعني اكتساب المزيد من التعاطف والمزيد من التأييد وربما تأمين الربح. وأيضًا ضمن معادلة أن الدم الفلسطيني وحده يمكن أن يكون العامل المساعد في تفاعل الانتخابات الإسرائيلية.
يحمل هذا في طياته تحذير الوقوع طواعية في معركة الدم الانتخابية الإسرائيلية حتى لا يدفع شعبنا ثمنًا باهظًا، وحتى لا نقع فريسة شهوة القتل الإسرائيلية، ويتطلب منا وعيًا أكبر بأنّ البوصلة الحقيقية لنا يجب أن تكون تجاه استعادة الوحدة الوطنية وإنجاز المصالحة. ولمرة واحدة في التاريخ نقدم نموذجًا تفاعليًا مضادًا لما يجري في الساحة الإسرائيلية حيث يزداد الصراع الداخلي بينهم ويخفت بيننا. هذا بحاجة لحكمة كبيرة ولشجاعة أكبر في تجاوز المطالب الحزبية والتنازل لصالح الوطن. ما عدا ذلك فإنَّ القطار سيغادرنا مرة أخرى، ولكن كم مرة أخرى ستظل هناك؟ وكم مرة سيأتي القطار إلى المحطة التي ننتظر فيها. لا أحد يعرف الإجابة، لكن المؤكد أن مستقبلنا يستحق أفضل من تطلعاتنا الراهنة.
الهروبُ نحوَ التصعيد
20-08-2019
مشاهدة: 207
عاطف أبو سيف
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها