الصراع بين الحق والباطل، بين المشروع واللامشروع، بين العدالة والجريمة، بين الخير والشر، صراع قديم جديد حكم البشرية منذ وجود الإنسان الأول حتى يوم الدنيا هذا. وكلما تطور المجتمع البشري، كلما تعاظمت اشكال ومركبات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني والديني بين بني الإنسان. ومع ولوج عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتربع الرأسمالية على سدة عرش البشرية، اتخذ الصراع بعدا جديدا تحت يافطة الاستعمار القديم، الذي انتهى تقريبا مع النصف الأول من القرن العشرين.
لكن هذا الاستعمار أنتج أشكالا أكثر وضاعة ووحشية من نماذجه لتحقيق أهدافه بأقل الخسائر الممكنة، منها ما أطلق عليه، الاستعمار الجديد بعنوان "التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية"، ومنها ما اعتبر امتدادا لإشكال الاستعمار القديم، غير انه تقمص شخصية سيد هذا البلد أو ذاك، غير انه فشل في بعض الدول كالجزائر، وساوم في بعضها الآخر، كما حصل في جنوب أفريقيا. وآخر وأعقد وابشع اشكال الاستعمار، هو الاستعمار المغتصب لرواية وهوية الأرض، المنتهج لفلسفة التطهير العرقي عبر سياسة الإحلال والإجلاء لأصحاب الأرض الأصليين، وهو الاستعمار الصهيوني، الذي أنتجه وفرضه الغرب الرأسمالي الاستعماري في الأرض الفلسطينية العربية.
الاستعمار الأخير، رغم ان قيادته الصهيونية أبرمت مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 اتفاقية أوسلو، ثم اتفاقية غزة أريحا أولا 1994، والاتفاقية الانتقالية 1995 ... إلخ لبناء جسور السلام الممكن والمقبول، والذي قدمت فيه المنظمة تنازلات كبيرة بهدف درء اخطار الحروب، وخلق مناخ التعايش والتطبيع، إلا ان دولة الاستعمار الإسرائيلية انكفأت عما وقعت عليه تدريجيا بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق، إسحق رابين عام 1995، ومع صعود ائتلاف اليمين المتطرف للحكم لاحقا منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، الذي بدأ مع تربع كل من نتنياهو وشارون، ثم نتنياهو لثلاث حكومات متعاقبة، وغياب الصوت الآخر في إسرائيل، أو لنقل خفوت الصوت المنادي بالسلام إلى الحد الذي لم يعد يسمع في أوساط الشارع الإسرائيلي، لان صخب وضجيج اليمين المتطرف والحريديم الصهيوني أغلق كل نوافذ وأبواب السلام.
وكون الاتفاقيات المؤقتة والانتقالية وما بينها، وما بعدها قسمت الأرض الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران / يونيو 1967 إلى ثلاثة أقسام (A و BوC)، ووزعت الولاية والسيادة عليها، فجاءت النتيجة متناقضة مع الطموح والرغبة بالوصول للسلام المنشود، لأن حكومات إسرائيل المتعاقبة تحللت من اية التزامات تجاه منظمة التحرير والشعب الفلسطيني، وساعدها في ذلك أكثر من عامل موضوعي، أهمها غياب الدور الأممي المقرر في بناء السلام وفق مرجعياته، وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، وإطلاقه يد الولايات المتحدة في الرعاية دون ضوابط، وصولا للتحول الخطير مع تولي الرئيس دونالد ترامب الحكم في البيت الأبيض، والذي أدار الظهر كليا لمبادئ ومرجعيات السلام من ألفها إلى يائها، وفي ذات الوقت كان اليمين الصهيوني المتطرف يسير في خط بياني صاعد نحو الفاشية، وتعميق وتوسيع المشروع الكولونيالي الصهيوني ليشمل كل فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وقبوله بإمكانية منح "السكان الفلسطينيين" حكما ذاتيا مدنيا محدودا وواهيا على انفسهم، وليس له اي سلطة على الأرض، ولعل مصادقة الكنيست الـ 20 على "قانون الأساس القومية للدولة اليهودية" تموز/ يوليو 2018 كان الذروة في انكشاف ظهر التسوية السياسية كليا، وانهيار آخر جدار لها، وإغلاق أي بصيص أمل فيها.
ما تقدم ترجمه نتنياهو وائتلافه الحاكم بالإسراع في السيطرة الفعلية على المنطقة المسماة (C)، التي تشكل نسبة 62% من مساحة الضفة الفلسطينية، ومضاعفة البناء فيها، وعليها، ولذر الرماد في العيون الفلسطينية والعربية والعالمية قرر الكابينت المصغر في الـ 29 من تموز الماضي (2019) الموافقة على بناء 715 وحدة سكنية للفلسطينيين في المنطقة ذاتها، وبالمقابل قرر بناء 6000 وحدة استيطانية، وبناء الف وحدة استيطانية في مستعمرة "افرات"، كما اعلن عن ذلك نتنياهو نفسه يوم الأربعاء الموافق 31/7/2019 من ذات المستعمرة، وأكد، انه "لن يسمح باقتلاع اي مستعمرة، أو مستعمر حيث يقيم". وسبق ذلك، وتلا ذلك عطاءات صهيونية متعددة، وبالمقابل قامت سلطات الاستعمار الإسرائيلية بهدم مئات وآلاف المباني الفلسطينية في كل المناطق  Aو B وC والتي كان آخرها في قرية صور باهر في واد الحمص.
الخلاصة مما تم استعراضه، انه لم يعد أمام الشعب الفلسطيني وقيادته، سوى استعادة زمام السيطرة على الأرض الفلسطينية، كل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 دون الالتزام بالتقسيمات المذكورة، والبناء والاستثمار عليها وفيها، وتحدي قرارات وقوانين دولة الاستعمار الإسرائيلية مهما كلف ذلك من ثمن، حتى لو هدموا كل يوم مبنى، علينا ان نواصل البناء والتعمير، وترسيخ الجذور ووفق خطة مدروسة وواعية، ودون تطير، ولكن بإصرار صاحب الحق والأرض والتاريخ والهوية، ووفق قرارات ومواثيق ومعاهدات الأمم المتحدة، التي كفلت للشعب الفلسطيني حق السيادة على ارض وطنه الأم، وفضح وتعرية دولة التطهير العرقي الإسرائيلية حتى تزول عن الأرض الفلسطينية المحتلة والمغتصبة.