ثمّة شك كبير حول وجود رؤية إعلامية عربية موحدة لمواجهة التحديات المصيرية التي تواجه الشعب العربي، ولا يمكن بأي حال الحديث عن موقف موحد تجاه الكثير من القضايا التي تعصف بالمنطقة العربية. وإنّ متابعة الحال العربي ومن خلال التنقل بين محطات التلفزة، التي تبث من جهات الوطن العربي الأربع، تكشف سوء الحال وتؤكد بصورة دامغة عدم وجود إعلام عربي حقيقي؛ إذ إن ما ينثر في فضاء الأثير يدلّل على ضعف التوجهات الإعلامية العربية وعجزها عن صوغ رسالة مقنعة يمكن أن تساهم في تصليب المواطن العربي في مواجهة الاختراقات الكبرى التي يتعرّض لها، خاصة مع تنامي وتسارع الإعلام الاجتماعي وانفتاح المواطن على الكثير من المواد الدعائية المعادية تقدَّم له بوصفها جزءًا من صداقة افتراضية. بالمقابل فإنَّ العمل على تحويل منصات التواصل الاجتماعي إعلاميًّا إلى منصات صديقة أيضًا ما زال ضعيفًا وربما معدمًا. وهذه قضية أخرى بحاجة لمعالجات أكثر عمقًا، لكنّها تستحق التأمل والإشارة إليها عند الحديث عن واقع الإعلام العربي.
أسئلة كثيرة يمكن أن يثيرها هذا النقاش، لكنها كلها تشير بعلامات الاستفهام حول واقع الإعلام العربي المعاصر وعدم مقدرته على توفير ما يحتاجه من إمكانيات مادية وتقنية في خدمة القضايا العربية، بل يصح القول: إن الإعلام العربي بات جزءًا من أزمة الصراعات العربية وربما كان ساحة الترجمة الحقيقية لهذه الصراعات.
وإذا كان يمكن رؤية جوانب الأزمة المختلفة التي تجعل الإعلام العربي في مثل هذا السياق الشائك، فإنه من المتعذّر تفهم تقاعسه في تقديم القضية الفلسطينية بشكل أكثر نجاعة وإدخالها في أتون الخلافات والمواقف العربية المتناقضة. ورغم أنه لا يمكن تفهم أي شيء حول إشكالية الإعلام، فإنه من المتعذر النظر بأي إيجابية لواقع الإعلام العربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وما لا شك فيه أن الوضع لم يكن يومًا مثاليًا، لكنه لم يكن يومًا بهذه الدرجة من السوء الذي يجعل منه طرفًا سلبيًا يساهم في تراجع مكانة القضية الوطنية الفلسطينية والانتقاص من الحقوق الوطنية الفلسطينية من خلال بث الدعاية المناهضة لهذه الحقوق.
لا يمكن للمتابع ألا يستفز وهو يشاهد لقاء قناة العربية مع شخص يطالب بطريقة أو بأخرى بالتعاطي مع "صفقة القرن". هل يمكن أن يكون هذا موضوعيًا؟ من المشكوك فيه إذا ما كانت الموضوعية تعني أن تأتي برواية الطرف الآخر. لا يوجد عربي محايد حين يتعلق الأمر بقضية العرب الأولى. إن الوقوف على الحياد بعبارات أكثر قسوة يعتبر اصطفافًا مع رواية الخصم؛ لأنه حين يتطلب منك الموقف أن تكون طرفًا فإن إصراراك على الحياد يعني اصطفافك على الضفة الأخرى من النهر، بمعني آخر انتسابك لسلالة غير سلالة الحق التي يجب عليك أن تكون جزءًا منها. من هنا فإن ثمة فهمًا مغلوطًا لمفهوم الحياد والموضوعية. ليبقى السؤال الكبير: هل ثمة موضوعية حقيقية في الإعلام؟ من المشكوك فيه إذا كان ثمة عاقل يستطيع أن يقول نعم بوجود مثل هذه الموضوعية إلا في جمهورية أفلاطون إن وجدت أو مدينة الفارابي الفاضلة. هل يستطيع إعلامي غربي أن يمتدح هتلر ويدافع عن وجهة نظره أو نقاء تاريخه وصواب فكرته في أي وسيلة إعلامية في أوروبا؟ لا أظن أن ثمة من يستطيع ذلك. لأن هناك اتفاقًا على القضايا الكبرى التي يجب أن تكون خارج حدود النقاش. هل يعني هذا أن ثمة قيودًا على حرية الرأي والتعبير؟ من المؤكد أن هذا لا يعني قيودًا بل هو تعريف معقد للأولويات.
انظروا كيف يجد الناطقون الإسرائيليون، ومنهم المتحدث باسم الحكومة والجيش، متسعًا لهم لمخاطبة الجمهور العربي عبر بعض الفضائيات العربية. دعاية مجانية لا يمكن تقديرها كلفتها بالمال. هكذا تحت زعم سماع وجهة النظر الأخرى يتم تعريض المواطن العربي لسموم الدعاية المضادة وبعبارات سلسة في مناخات، ومع الزمن والتكرار لا تعود معادية. هل يمكن تصور أي خدمة يسديها الإعلام العربي، خاصة بعض الفضائيات الكبرى، لإسرائيل وللصهيونية من وراء ذلك. كم مرة رأينا أمثال هؤلاء على كبريات المحطات العربي يدسون السم بالكلام المعسول. ألم تكن نتيجة كل تلك التراكمات ما نراه من مشاحنات بين مواطني بعض الدول العربية ومواقفهم السلبية من القضية الوطنية الفلسطينية؟ أليست بعض زيارات الأفراد والوفود نتيجة هذه السلبية الإعلامية في التعاطي مع المواقف الفلسطينية؟
السؤال الكبير: ماذا كان المتوقع من الحديث مع شخص مشبوه أو هو طرف مع سلطات الاحتلال حول صفقة القرن وموقف القيادة منها، خاصة في ظل زيارة كوشنر إلى المنطقة؛ للضغط على الدول العربية للركوب في قاطرة الصفقة؟ ألم تكن نتيجة السؤال نعم يجب أن يوافق الفلسطينيون؟ أو ماذا يمكن التوقع من لقاء مباشر مع المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية على إحدى الفضائيات.. أن يقول نحن متأسفون لقد أخطأنا بحق الفلسطينيين أو إننا لم نكن نقصد قتل أطفال عائلة بكر على شاطئ البحر وهم يلهون بكرة القدم؟
من المؤكد أن النية تسبق النتيجة في الكثير من المرات، وهي تتطابق معها في حالات مؤكدة مثلما هو الحال في الشواهد السابقة. هذا بدوره يتطلب موقفًا حازمًا من الإعلام العربي سواء على صعيد وزراء الإعلام أو النقابات المعنية؛ لأن ترك الإعلام العربي عرضة لكل المرويات وتركه عرضة لآفات الصراعات الجانبية يساهم في تشويه الطريق وتضليل الرأي العام، بدلًا من توحيده تجاه الدفاع عن القضايا العربية المشتركة. ليس المطلوب أن نكون على قلب رجل واحد، لكن على الأقل ألا نكون على قلب مليون رجل. وهذا أضعف الإيمان وهذا ليس بالمستحيل، خاصة حين يتعلق الأمر بقضية مثل قضية فلسطين.