أكّد لي صديقي المؤرّخ أ.د.مصطفى كبها ما قاله لي قبل نصف قرن أحد "ختيارية" عائلتي بأنّ جدّنا قدم من معرّة النعمان في سوريا ولمّا وصل الى الجليل جذبته هذه الهضبة الجميلة الّتي تطاول أكتافها عنان السّماء، وتسهر على هدير البحر الأبيض المتوسّط تغسل أمواجه قدمي عكّا والنّاقورة، وتفرك عينيها الخضراوين في كلّ صباحٍ لترافق النوارس وهي تلثم بطن الغزالة في طبريا. وأكاد أتخيّل جدّنا المعرّيّ السّوريّ فرحًا حينما عرف أنّ الاسم يلائم المسمّى فكلمة "ميعار" تعني المكان العالي في اللسان السّاميّ لذريّة كنعان كما أنّ للاسم علاقة قربى بموطئ رأسه.
أوجعني التّاريخ وأنا أقرأ عن غزو المغول والافرنج والعثمانيّين والفرنسيّين والدّواعش لمعرّة النّعمان الّتي كانوا يذبحونها من الوريد إلى الوريد، مثل خروف العيد، كلّما نهضت مثل عنقاء الرّماد من كل محنة.
كلّما نقل لي الأثير خبرًا عن قصفٍ أمريكيّ تركيّ قطريّ سعوديّ داعشيّ روسيّ لمعرّة النعمان حزنت على أهلي هناك، على الأطفال والشّبان والصّبايا والنساء والرّجال والشّيوخ، حزنت على حضارة المدينة العريقة، حزنت على أحيائها وحدائقها وأشجارها وأزهارها وأبارها وعصافيرها ووشوشات العندليب لأنثاه في الصّباح وهمس دوريّ لدوريّة عند الأصيل، وحزنت على ما جرى ل" سقط الزّند" و"اللزوميّات" وشاهدت ابن القارح طالعًا من "رسالة الغفران" مستجيرًا بجدّي التّنوخيّ، الأعمى البصير، الكفيف الّذي رأى ما لا يراه المبصرون، وما لم تره زرقاء اليمامة فيطلّ أبو العلاء المعرّي من لحده الّذي قصفته طائرات العلوج الّذين لا يقرأون ولا يكتبون ولا يشعرون ولا يحبّون فيقول:
قد فاضت الدّنيا بأدناسها           على براياها وأجناسها
وكلّ حيٍّ فوقها ظالمٌ                وما بها أظلمُ من ناسها
فيأتيه صوت أبي فراس الحمدانيّ من حلب، وصوت ديك الجنّ من حمص، وصوت ابن عربيّ من دمشق الشّام، وأصواتٌ عديدة، قديمة ومعاصرة، من أبي تمام الطّائيّ والبحتريّ إلى محمّد الماغوط تقول: على رِسلك يا أحمد بن سليمان فقد عرفت الشّام ذئابًا وضباعًا، غرباء غزوها، ووحوشًا نبتوا من ترابها، ذبحوا ونهبوا، أحرقوا ودمرّوا، أسروا وقتلوا، وزالوا كما يزول الثلج من على الجبال وبقيت حلب ومعرة النعمان وحِمص وحماة.... وبقيت دمشق.
ابتسم أبو العلاء المعرّيّ ابتسامةً ما عرفت وجهه المجدور منذ غادر بغداد عائدًا إلى المعرّة وقال:
جاءت أحاديث إن صحّت فإنَّ لها     شأنًا ولكن فيها ضعفَ إسناد
فشاور العقلَ واترك غيره هدرًا      فالعقل خيرُ مشيرٍ ضمّه النّادي