في رؤية الرئيس أبو مازن للمستقبل، "أن يصاغ بكل عناية، عبر تجاوز كل محطات المآسي التي تعنون صفحات عدّة في كتاب الماضي، والمآسي المعنية هنا تلك التي أنتجتها أخطاء جسيمة، في إدارة شؤون حياتنا الوطنية، وشؤون مسيرتنا النضالية، وشؤون علاقاتنا العربية، التي حكمتها موازين قوى مختلّة، وسياسات تجريبية، وأخرى رومانسية تعالت على الواقع، وليس حتى لصالح النظرية، وإنّما لصالح خطب البلاغة الإنشائية، والبيانات الشعبوية، ولا بدَّ في إطار هذا التجاوز من محاكمة تلك الأخطاء الجسيمة، بمرافعات النقد المسؤول، على نحو تحريمها كي لا تكون مرة أخرى، وعلى هذه القاعدة ووفق هذا المنهج تصبح العناية الفائقة في صياغة المستقبل ممكنة، والذي هو بالقطع مستقبل الحرية والاستقلال الذي تتحدّث عنه رؤية الرئيس أبو مازن هذه.
ستحتاج هذه الصياغة، وفق هذه الرؤية، وبكل تأكيد إلى "جهود فارقة" وإلى معرفة وثقافة "وحكمة عالية المستوى" والحكمة ليست ضالة المؤمن فحسب، بل ولطالما هي التي ترشد إلى صواب الفعل والطريق، كما أنّها نتاج العقل الرزين، العقل المستقبلي إن صح التعبير، المناهض للماضوية في الفعل والتفكير.
وليس من الصعب أن نعرف أين تتجلَّى رؤية الرئيس أبو مازن للمستقبل هذه، إذا ما تتبّعنا منهجه في إدارة شؤون الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في حراك سياساته المرحلية والاستراتيجية، التي يجمع المجتمع الدولي اليوم أنّها البليغة في تعقلها واقعيتها النضالية، ما أكسبه احترام هذا المجتمع وتقديره، حتى من خصومه والأعداء، ونذكر هنا بما قاله "إيهود أولمرت" عن الرئيس أبو مازن بأنّه الوحيد القادر على صنع سلام حقيقي، ونشير هنا كذلك إلى ما أعلنه "جاريد كوشنير" مطلع هذا الشهر عن إعجاب الرئيس دونالد ترامب بالرئيس أبو مازن وتطلُّعه لحوار معه، وأيًّا كانت غاية هذا الإعلان، فإنّه يعبّر في المحصلة عن اعتراف بقوة الحضور السياسي والأخلاقي للرئيس أبو مازن، واستحالة تجاوز هذا الحضور.
وبوعي الدولة ومسؤوليتها، وسُبُل إدارة شؤونها المختلفة، تتجلّى رؤية الرئيس أبو مازن في سياساته التي تشدّد على ضرورة الحكم الرشيد، وتعزيز الديمقراطية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد، وحيث لا أحد فوق القانون، وتعميم ثقافة البناء والتنور الحضاري والإنساني، وكلُّ هذا بالطبع ما يعزّز صياغة المستقبل بالعناية الفائقة المرجوّة، وفي هذا الإطار رفض ويرفض الرئيس أبو مازن تسوية الانقلاب الحمساوي، وإنهاء الانقسام البغيض، بخيارات العنف والقطيعة، من أجل ألا تكون هناك محطات مآسي جديدة في تاريخنا الوطني، وبرغم أنَّ "حماس" لم تكن يوما في هذا الوارد، وعلى ما يبدو أنّها لن تكون فيه حتى الآن وهي تكرّس الانقسام كل يوم بخطوات جديدة، فها هي وبدل أن تستجيب لأحدث دعوات الرئيس أبو مازن تحقيق المصالحة الوطنية بتطبيق اتفاق 2017 للتصدي لمهمات قرار القيادة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقات الموقّعة مع الجانب الإسرائيلي، نقول بدل أن تستجيب لذلك، ذهبت نحو الاستجابة لمتطلبات المزيد من الشرذمة المدفوعة الأجر وهي تعيد اليوم تشكيل لجنتها الانقسامية لتعزيز حكمها الانقلابي، وتعلن أنَّ اتفاق 2017 لم يعد قائمًا، وأنّه قد انتهى، ولأنَّها تريد أن تقف اليوم في خط الدفاع الأول عن طهران كما أعلن صالح العاروري!!!
على هذا النحو تواصل "حماس" طريقها خارج الواقع، وتُغذُّ الخطى فيه نحو أوهام لا تسمن، ولا تغني من جوع، وعلى هذا النحو أيضًا على الكل الوطني أن يرى أنَّ "حماس" لا تملك غير عقلية ماضوية، فليس سوى هذه العقلية مَن يجعلها على هذه الحالة، أن تظلَّ أداةً تابعة، ووسيلة شرذمة، ولهذا فإنَّ الصياغة فائقة العناية للمستقبل تتطلَّب اليوم التصدي لهذه العقلية الماضوية ودائمًا بلغة التعقُّل الوطنية بحكمتها عالية المستوى هذه التي يحتكم عليها الرئيس أبو مازن.