الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أعقد أشكال الصراع في العالم، لأن الاشتباك قائم ومتواصل بين الشعب العربي الفلسطيني وأتباع الديانة اليهودية من الإثنيات المختلفة في كل تفاصيل ومجالات الحياة، بدءا من الرواية وانتهاء بآخر معلم من معالم الكينونة السياسية والاجتماعية والقانونية والدينية والثقافية التراثية. وتلك الجماعات المتعددة الانتماءات القومية والعرقية أصر الغرب الرأسمالي والحركة الصهيوني على الادعاء، انهم "شعب"، مع ان هذا الادعاء مخالف لكل الشرائع والقوانين وصيرورة التطور الاجتماعي والاقتصادي الكوني، ولا يقبل القسمة إلا على (جملة ناقصة) وعند غلاة المستعمرين الرأسماليين واتباعهم الصهاينة، ومن والاهم في روسيا ودول أوروبا الشرقية، ولهذا أسبابه النفعية، وخلفياته الجيوسياسية.
دون الخوض كثيرا في مركبات المجتمع الإسرائيلي الاستعماري. فإن واقع الصراع، والتداخل العميق بين مكونات المجتمع الفلسطيني والمجتمع آنف الذكر، ومحتوى وركائز الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين بدءا من اتفاقية اوسلو 1993 حتى خطة خارطة الطريق 2002، وحتى مؤتمر انابولس 2007، واستشراء الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي، ورفض حكومات إسرائيل المتعاقبة لصناعة السلام على اساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، ومع صعود اليمين الإفنجليكاني الأميركي إلى سدة الرئاسة مطلع 2017، وغياب إرادة دولية حتى الآن لإلزام إسرائيل بدفع استحقاقات السلام الممكن والمقبول، وتراجع مكانة النظام الرسمي العربي، وحدوث الانقلاب الإخواني في أواسط 2007 على الشرعية الوطنية، وفصل الضفة عن غزة، كل ذلك ضاعف من تعقيد الصراع، ووضع الف عصا في دواليب عربة السلام.
الهدف هنا التوقف أمام قرار القيادة مساء الـ25 من تموز/ يوليو الحالي (2019) بوقف العمل بالاتفاقات المبرمة مع الدولة الاستعمارية الإسرائيلية، وتحديد موقعه في عملية المواجهة، هل هو بمثابة جرس إنذار مبكر لوقف الاتفاقات، أم هو تجميد، أو إلغاء لها؟ وكيف يمكن تقليص الخسائر الفلسطينية أثناء عملية التطبيق للقرار؟ ولماذا صدر القرار الآن؟ هناك عاملان وراء إصدار القرار، الأول ردا على جرائم الحروب المتوالية، التي ترتكبها حكومة نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني ومصالحه الوطنية، وآخرها مجزرة تدمير 70 شقة في عشرة مبان في وادي الحمص في قرية صور باهر، وردا على الحرب المفتوحة من قبل أميركا ترامب على الشعب الفلسطيني، وثانيا هز العصا في وجه إسرائيل وأميركا وأضرابهم، أن القيادة والشعب الفلسطيني لديهم أوراق قوة ويمكن استخدامها مباشرة في حال لم تتراجع إسرائيل عن خيارها الاستعماري والمعادي للسلام. وفي ذات الوقت، استجابة لنبض الشارع الفلسطيني ونخبه وفصائله.
وعليه فإن القرار جاء يحمل الدلالتين، الأولى رفع درجة التحذير، والثانية الشروع التدريجي في تنفيذ سياسة الانفكاك. لأنه لا يكفي أن ترفع شعارا، أو تتخذ قرارا في هذة اللحظة أو تلك، انما الضرورة تملي التوقف الجدي والمسؤول أمام كل نقطة وفاصلة لبحث الآليات الواجب انتهاجها لفك الارتباط مع دولة الاستعمار الإسرائيلية. لا سيما ان قيادة منظمة التحرير منذ اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل مطلع كانون الأول/ ديسمبر 2017 شكلت العديد من اللجان لبحث التفاصيل والأولويات، وطبقت بعض القرارات المتعلقة بأميركا، لكن مع دولة الاستعمار الإسرائيلي واجهت إشكالية في عملية الترجمة للقرارات نتيجة التشابك المعقد بين شعبنا ودولة الاستعمار. لذا لا يجوز الخضوع للخطاب الشعبوي العاطفي أثناء ترجمة عملية الانفكاك عن إسرائيل، بل العمل الواعي والهادئ والهادف لبلوغ غايات وأهداف الشعب بالانفصال التدريجي عن الاستعمار وبأقل الخسائر الممكنة.
وعليه المطلوب الآن من اللجنة الأخيرة، وآمل ان تكون الأخيرة، وضع تدرج واقعي للشروع في الانفكاك عن الاقتصاد والسوق والعملة والغلاف الجمركي الإسرائيلي، والتجفيف المتدحرج للتنسق الأمني، واختراق معاكس لتصنيف الأرض الفلسطينية A وB وC وعدم الرضوخ لها، وفرض الوقائع خطوة خطوة، وتعزيز السيادة على الأرض وإلغاء جذري لكل التسميات الإسرائيلية للطرق والمدن والقرى، وتكريس ذلك بوضع اللافتات الفلسطينية العربية حتى آخر قرية وخربة فلسطينية، وتشكيل لجان شعبية لحماية الأرض في كل قرية وأحياء المدن دون استثناء، لأن كل المدن والقرى محاطة بالمستعمرات، وإصدار جواز السفر الفلسطيني باسم دولة فلسطين، وضرورة العمل مع دول العالم وخاصة الأقطاب الدولية المؤثرة في صناعة القرار الأممي على إلزام إسرائيل بدفع التعويضات للسكان، الذين هدمت منازلهم، ووقف الاستيطان الاستعماري عموما وفي القدس خصوصا، وفرض العقوبات عليها لإخضاعها للقانون الدولي وتكريس عملية السلام على ارض الواقع وفق مرجعياتها الأممية. لبلوغ ذلك لا بد من حسم قضية الانقلاب الحمساوي، وتعزيز المقاومة الشعبية المتصاعدة، وايضا رفع الصوت المسؤول والحازم في وجه كل نظام عربي يتجاوز محددات مبادرة السلام العربية وأولوياتها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها