لا وطن يشبهك يا وطني. قدرك حمل أعباء الأبدية، منذ اختارتك السماء لحمل رسالاتها المقدسة.. وكان عليك تقديم القرابين الأبدية. في وطني استوطن سيزيف وتقمّصنا.. المزارع يحرث أرضه ويُنبت زرعه، ويرعى شجر زيتونه وليمونه، ثم تأتي يد الظلم لتقتلع الزرع والزيتون. فيعيدُ الزرع مرة ثانية وثالثة، وتتربصه الآلة الغاشمة لتقتلع الشجر والزيتون مرة ثانية وثالثة، عقاب سيزيفيّ..
هنا في وطني يبني الفلسطيني بيته، بكد وتعب سنوات عمره، وحين ينتهي البناء، تأتي الجرافات بهديرها المقيت، وتحيل حجارة البيت والأبنية الى كومة رمال.. فيعيد البناء، وتشتم الجرافات رائحة عرق البنّاء على حجارة بيته، فتسارع لتسويته بالأرض.. وتتكرر الحكاية، بعضهم لم يسكن بيته بعد، ولكنه تحوّل أمام ناظريه كومة من رمال، حيرة سيزيفية..
"لدوا للموت وابنوا للخراب/ فكلكم يؤول الى تباب"، هذا شعار المحتل. الأمهات يلدن، وبندقية غاشمة، تحصد أرواح الأطفال والشباب.. ثم يلدن ويلدن، والبندقية مترصدة للقادمين الجدد الى الحياة.. عذاب سيزيفي أبدي..
رحلة الشباب ما بين السجون ومراكز التوقيف هي رحلة سيزيفية بامتياز، يخرج الشاب من المعتقل، ثم يُعاد اعتقاله، أو يخرج مريضا، ويستشهد على يد مرضه، أو يعيش بإعاقة أبدية تكون صليبه أو صخرة سيزيفية.
أين في العالم، تجد وطنا، يُدفن شهداؤه على دفعات وبالتقسيط؟! يحدث هذا فقط في وطني. قبل أشهر قليلة، أفرج عن أسير، كانت قد بترت ساقه في المعتقل، وقام أهله بدفن الساق في مقبرة قريته. وحين أطلق سراح الأسير، ذهب لزيارة قبره حيث ترقد ساقه. من يفهم الأسير ومشاعره حين وقف زائرا أمام قبره؟ وهل قرأ الفاتحة عن روح جزء منه، سبقه الى الآخرة؟! الشهداء يزورون قبورهم.. وقبل أيام، رحل عن دنيانا المناضل بسام الشكعة، فالتحق هو أيضا بساقيه اللتين بترهما تفجير عدو غاشم.
المشاهد العقابية، من مجازر ترتكب بحق البشر والشجر والحجر، تمكن مشاهدتها حيّة بالصوت والصورة، وسوف تتوقّف أفلام هوليوود عن إنتاج أفلام "الأكشن"، فهناك من بذّها في الإنتاج. آخر حفلة تدمير جماعية للأبنية والبيوت في القدس، وتحديدا في المنطقة التي يُفترض أنها فلسطينية، حسب الاتفاقيات، كانت الجرافات تهدم المساكن على وقع الموسيقى.. يقف الفلسطيني، الذي تمكن من بناء بيت يضمه مع أسرته، بعد تعب عمر بأكمله، يقف متأملا ركام بيته، فمن أين سيأتي بعمر جديد يكدح فيه ليتمكن من إعادة إعمار البيت؟! وتقف الأم تنظر إلى أطفالها وقد صار الشارع مسكنهم، فتستعيد صورة ركام بيتها وهي طفلة، مشهد يتكرر مع أطفالها. لعنة سيزيف، استوطنت هذا الوطن الممزق ما بين اللجوء والتهجير والترحيل والإبعاد.. إنها ذاكرة عذابات وطن وأهله.
التاريخ حقا، يعيد نفسه على شكل ملهاة أو مأساة. ما زال المحتل يكره ويحظر سماع الموسيقار العالمي الألماني ريتشارد فاغنر، لأن قتل اليهود على يد النازية كان يتم على وقع موسيقاه! وهنا صارت الضحية، جلادا فاق جلاده، بما لا يقاس من الوحشية، ويتمثل به، بالقتل على أنغام موسيقية!
ما يثير الاستغراب، أن المغتصب الذي سمح لمؤرخيه الجدد، بالبحث في الأرشيف الصهيوني منذ سنوات طويلة، عاد وأغلق أرشيفه، وقام بإخفاء الوثائق التي توثق لجرائم وحشية، قامت بها عصاباته. جرائم لا تخفى على أي فلسطيني، راحل أو مقيم في وطنه.. فقد سمعناها من أهلنا وكل الذين عاصروها وكتبت لهم النجاة ليدونوا تلك المجازر، فحمل الراحلون ذاكرتهم وأورثونا تفاصيل حكاياها، ومهمتنا تدوين تلك الذاكرة، فهي الباقية لتوريثها للأجيال القادمة. لكن المفارقة، أنهم يخفون ما قاموا به في السر، وهم الآن يقومون بتوثيق جرائمهم، وببث حيّ، فهل هي أسلوب ترهيب جديد لحمل الناس على الرحيل، أو الإذعان لواقع مفروض جديد، يعتقدون أنه يمحو الحقائق التاريخية؟!
يقول ألبير كامو "ليس هناك عقاب أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه".. والفلسطيني يقول: سيزيف صار أسطورة تُروى، ويسوع الناصري، تغلب على الموت وقام، وستكون لشعبنا قيامة مجيدة..