في الساحة الفلسطينية ظاهرة غير حميدة، هي فوبيا النقد، وعدم التمييز بين نقد ونقد، حيثُ يفترض البعض من تيارات واتجاهات سياسية وإعلامية واجتماعية وثقافية مختلفة، أنّ كل عملية نقد تصبُّ في خدمة قوى الثورة المضادة وإسرائيل الاستعمارية، وبالتالي إذا كان ولا بد من تدوين الملاحظات، فيجدر أن تكون داخل الغرف المغلقة، ولا تخرج للعلن، لأنّ المتربّصين كثر، واللحظة السياسية حرجة وصعبة، والاستهداف للمنظمة والسلطة وفصائل العمل الوطني بلغ لحظة متقدّمة، وبالتالي لا يجوز إعطاء الأعداء أسلحة للانقضاض على المؤسّسات والفصائل والرموز الوطنية.
ولكن مطلق شخص، أو مؤسسة، أو حزب، أو سلطة دون مراجعة التجربة الذاتية بين الحين والآخر، وتصويب آليات العمل، وتنقية الأجواء، ووضع المبضع على الجرح، وتنظيف مواقع الألم، والأزمات، واشتقاق الحلول الإبداعية والخلاقة لتطهير الذات من الأدران والأخطاء والخطايا، لا يمكن أن تتطور، وتستعيد عافيتها.
ويخطئ من يعتقد أن وضع الرأس في الرمال كـ"النعام"، أو حصر نطاق النقد داخل الغرف المغلقة، وبين مجموعة من الرفاق والرفيقات والأخوات والإخوة يمكن أن يؤدي الوظيفة الصائبة للنقد. واقصد هنا النقد الموضوعي، النقد البناء، النقد المسؤول لا المراهق، والعدواني، أو النقد المفتعل، والمسقط لرغبات الناطقين به على هذا المسؤول، أو ذاك الحزب، أو تلك المنظمة والفصيل، أو المؤسسة، فمثل هذه الأشكال من النقد، هي أشكال تخريبية، أشكال معطلة، وهدامة، ولا تخدم من قريب، أو بعيد الدوافع الإيجابية لعملية النقد، وتقصي مخرجات النقد المشروع والنقية من سياقها، وتضرب عرض الحائط الأهداف النبيلة للنقد.
عودتي لموضوع النقد، وتبيان الفرق بين النقد البناء، والنقد الهدام والتخريبي يعود لسببين، الأول أن أحد الإخوة والأصدقاء الأعزاء، علق على المادة، التي نشرتها قبل يومين حول "درس المناسبات الفصائلية"، فقال لي بالحرف "ماذا أبقيت لحماس؟" وتابع صديقي " ان حماس تترصد وتنتظر هذه اللحظة، ان يأتي النقد منا نحن، لتستخدمها كذريعة لمضاعفة هجومها على المنظمة".
 وأضاف: "كما أن مقالتك طلعت بوجه احد الفصائل"، ثم دار حوار موسّع معه ومع أصدقاء آخرين حول ذات النقطة، وعلى أهمية ملاحظة صديقي، التي اختلف معها جملة وتفصيلاً، إلا أنّني رحّبت بها، لأن الواجب يملي أن تسمع كل ما يقال سلبيًّا أم إيجابيًّا. الثاني، الحملة المنظّمة والشرسة لتضخيم الأخطاء والنواقص الموجودة في المؤسسات الفلسطينية الشرعية، واستهدافها الواضح للرموز الوطنية، ضخ غير مسبوق من كل القوى المعادية بدءًا من الولايات المتحدة وفريقها الصهيوني، وإسرائيل الاستعمارية وأجهزتها الأمنية، وحركة "حماس" الإخوانية، وغيرها من العرب والعجم لتقويض الهوية والشخصية والمشروع الوطني.
وبالتوقف أمام السببين المذكورين، يمكن الجزم، أن أي عملية نقد موضوعية تستهدف التصويب، تقطع الطريق على حملات الأعداء، وهناك فرق بين ناقد من داخل المؤسسة، ولأهداف وغايات نبيلة ووطنية خالصة حتى لو كانت قاسية وجارحة أحيانا، فإنها مفهومة، ومقبولة، ويجب حمايتها، وعدم الخشية منها. لأن هناك فرقا شاسعًا بين "حماس"، التي لا تمّت بصلة للمشروع الوطني، وتقف في الصف الآخر، وبين شخص يحمل راية المشروع الوطني. ولا يجوز المساواة بين النقدين، والنموذجين، فشتّان ما بين الثرى والثريا، فلا يجوز من حيث المبدأ المقاربة، إلا اذا أراد شخص ما التشويه، وتعطيل عملية النقد، وتغطية الشمس بالغربال، وكأنه لا يرى الأخطاء والنواقص والعيوب، أو يريد إبقاء الحال على ما هو عليه، وإن تجشم أحد ما الشجاعة، عليه إلّا ينطق خارج دائرة الغرف المغلقة، وهذا ليس نقدا، هذا اسمه التعايش مع الواقع غير الإيجابي، والرضا عن الذات، وممالأة المؤسسات والفصائل بما لها وعليها، وهذا لا يخدم نهوضها وتطورها، واستعادة عافيتها، والرد على الهجمة الشرسة، التي يقودها الأعداء. ويخطئ من يعتقد أن فصائل تعاني من أزمات عميقة قادرة على مواجهة التحديات، والرد على الهجمة الأميركية الإسرائيلية الإخوانية الإسلامية.
وأمّا عن السبب الثاني، فهو بالضبط ونحن نتصدى له، وعدم الوقوع في أحابيله وسمومه، يحتاج ويملي علينا كل من موقعه، وبما يملك من التأثير تسليط الضوء على الأخطاء، والنواقص والمثالب الموضوعية، دون تأتأة، أو خجل، أو تردد، أو تغطية على عيب في شخص، أو فصيل، أو منظمة، أو وزارة وهيئة، أو مجلس بلدي، أو قروي ... إلخ بهدف الإصلاح والترميم، وتصليب العود، وتنقية الهواء، وتجديد الدم،  لنقول لكل قوى الثورة المضادة، نحن حماة الذات الوطنية، والمدافعون عن المصالح العليا للشعب والقضية، ونحن الأقدر على تسليط الضوء على أخطائنا ونواقصنا، ولا نخشى حملتكم، وسيوفكم المثلومة والفاسدة والعفنة، وان الرموز والمؤسسات والفصائل بما لهم وعليهم، هم الأقدر على حمل راية النقد العلمي والبناء، واستخراج العبر والدروس الواجب استلهامها في كل لحظة ومحطة.