حلت يوم الإثنين، الأول من تموز، الذكرى الخامسة والعشرون لعودة الرئيس الشهيد ياسر عرفات "أبو عمار" إلى الأرض الوطن، حين استقبلته جماهير شعبنا بحماسة بالغة مرددة هتافات "بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار".
ففي الأول من تموز من عام 1994 كانت فلسطين على موعد خاص مع القائد أبو عمار، كانت تلك هي المرة الأولى التي يعود فيها إلى أرض الوطن، ليس كفدائي متخفِ، بل في إطار اتفاق أوسلو الذي وقعت عليه منظمة التحرير الفلسطينية عام1993، معزز باعتراف دولي وأمام عيون الملايين في العالم الذين تابعوا عبر الشاشات مشاهد عودته.
وفي الثالثة من بعد الظهر، قبّل عرفات أرض الوطن على الجانب الآخر من الحدود وأدّى الصلاة شكرا وحمدا لله على العودة إلى وطنه بعد 27 سنة من الغياب القسري.
وكانت الجماهير تنتظره على أحر من الجمر، كانت اللحظات مفعمة بالعواطف والمشاعر، وكان الصخب هائلا وكان المشهد تاريخيا، فقد علّقت انتصار الوزير "أم جهاد"، التي وصلت مع الرئيس أبو عمار في القافلة ذاتها، قائلة: انتظرت طوال حياتي هذه اللحظة، لقد استشهد زوجي "أبو جهاد" من أجلها.
تدافعت الحشود من كل الجهات على 'أبو عمار'...وكانت الطريق مزدانة بالأعلام الفلسطينية وبصور عملاقة للرئيس عرفات.
اكتظ ميدان الجندي الـمجهول في غزة بعشرات الآلاف من المتعطشين إلى رؤيته، تسلق الشبان الأشجار والأسطح ليشاهدوا عن بعد أبو عمار الذي يرمز إلى الحرية والكرامة، وما أن ظهر على المنصة، حتى اندفعت الجماهير الفلسطينية، كموجة هائلة نحوه، محطمة الحواجز، كاسرة سياج رجال الشرطة.
وتوجه عرفات بعد ذلك إلى مخيم جباليا الذي انطلقت منه الانتفاضة وقال هناك: "لنتحدث بصراحة، قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".
وفي اليوم التالي، عبر قطاع غزة بسيارته، متوقفاً من حين لآخر لـمصافحة الناس. اشتدت حماسة الجماهير، فأمر أبو عمار رجال الشرطة بأن يدَعوهم يقتربون منه ويلـمسونه...اندفعت الجموع نحو الرئيس.
وفي الثالث من تموز انتقل عرفات من غزة إلى أريحا على متن طائرة مروحية، وخرج المواطنون لاستقباله بحماسة أعادت إلى الأذهان مشاهد غزة، فقد انهار حاجز الأسلاك الشائكة الـمزدوج الذي يحمي الـمنصة تحت ضغط الجماهير، وهتف عرفات مطولا مع الـمتظاهرين بـ"الروح بالدم نفديك يا فلسطين"، ثم راح يهدئ الجماهير شيئا فشيئا، حتى بكى الكثيرون تأثرا...إنها لحظات وطنية تاريخية تستحضر التضحيات وتعطي أملا بأن التحرر من الاحتلال قد بدأ فعلا.
وفي الـمقر الجديد للسلطة الوطنية الفلسطينية الجديدة في مدينة أريحا بالضفة الغربية، أدت الحكومة الفلسطينية الأولى اليمين الدستورية، ردد عرفات، ومن ورائه 12 وزيرا، "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لوطني، ولقيمه الـمقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لـمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص. والله شاهد على ذلك".
وبعد عشرة أيام من عودته لأرض الوطن، بدأ ياسر عرفات يستعد لـمغادرة تونس إلى الوطن ليستقر نهائيا فيه، حيث جرى له وداع رسمي بتونس، في الثاني عشر من تموز.
وفي اليوم ذاته، وصل أبو عمار إلى غزة وفور وصوله توجه إلى مكتبه، وعقد أول اجتماع مع زملائه في القيادة الفلسطينية...كانت تنتظرهم مهمات ضخمة ومطلوب إنجازها هذه المرة ولأول مرة من أرض الوطن وليس من المنافي.
ومن مقره في "المنتدى" غرب مدينة غزة، بدأ عرفات معركة بناء السلطة الوطنية وإقامة مؤسساتها، كان مكتبه شبيهاً بذلك الذي تركه في تونس، قاعة اجتماعات، ومكاتب، وغرفة ليقضي فيها قيلولته التي لا غنى عنها.
لقد اختار ياسر عرفات العودة وهو مدرك لما يريد تجسيده على الأرض، ومتيقن بأنه لن يكون تبعا لأي طرف كان، وحافظ على القرار الوطني المستقل لينهي حياته شهيدا في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2004، بعد أن رسخ نهجا ثوريا صلبا، وعقب حصار إسرائيلي جائر لمقر الرئاسة "المقاطعة"، جاء ردا على مواقفه الصلبة وتمسكه بالثوابت الوطنية.
البروفيسور كمال الأسطل أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر في غزة، يتذكر هذه اللحظات التي وطأت خلالها قدما الرئيس الراحل أبو عمار أرض الوطن، قائلاً: "هذه ذكرى وطنية عظيمة كنت على معبر رفح مع جموع المستقبلين في ذلك اليوم التاريخي حيث دخل موكب أبو عمار بعد العصر تقريباً واستمر إلى فندق فلسطين وسط سيل جارف من حشود الجماهير".
وأضاف الأسطل، أن هذه الذكرى تعيد فينا تجديد الروح الوطنية والعطاء لفلسطين على طريق إقامة الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس، وهي مناسبة للوحدة الوطنية ولم الشمل الفلسطيني في ضوء المؤامرات التي تحاك ضد القضية الفلسطينية، وأبرزها ما يسمى بصفقة القرن المشبوهة وورشة البحرين الاقتصادية الهادفة لتصفية قضيتنا الوطنية، وتحويلها من سياسية إلى اقتصادية.
وأكد أن هذه الذكرى تجعلنا نعيش لحظات الحرية والكرامة على أرض الوطن، ونعيد بناء الإنسان الوطني ولتأخذ الأجيال القادمة دورها في تحرير التراب الوطني وإقامة دولة فلسطين ويعيش شعبنا بأكمله في وطنه حراً عزيزاً كباقي شعوب الأرض.
إلى ذلك قال جمال الفاضي استاذ العلوم السياسية، والذي واكب لحظات دخول الرئيس أبو عمار إلى أرض الوطن قال: "هذه ذكرى عزيزة علينا ذكرى عودة الرئيس ياسر عرفات، كانت عودة للوطنية الفلسطينية، عودة للكادر الوطني الفلسطيني، للروح الوطنية على الأرض".
وأضاف أن عودة الرئيس أبو عمار كانت بداية الطموح الوطني الفلسطيني بإقامة الوطن المستقل والدولة المستقلة، كانت عودة تشكل لنا إعادة تجديد للأمل في بناء وطن فلسطيني جديد على الأرض الفلسطينية تقوده القيادة الشرعية، كانت تمثل لنا عودة لروح الحياة المتجددة الوطنية على الإنجاز.
وشدد الفاضي على أنها شكلت دافعا جديدا لجيل الشباب من الفلسطينيين بأن القائد التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات موجود على الأرض الفلسطينية وبين أبنائه ومقاتليه على هذه الأرض.
وأردف: "بالتأكيد كانت عودة عزيزة وغالية وشكلت لنا نبراسا جديدا للأجيال الشابة فيما يتعلق بالسعي نحو الاستقلال الوطني".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها