ينجح الاسرائيليون باستخدام شتي السبل في التفلت من التزام السلام ، ويتذرع قادتهم في ظل سيطرة اليمين الشقيّ بأشد الحجج ضعفا بالنفخ فيها الى الحد الذي يجعلها غير قابلة للتراجع.
(مائير داغان) رئيس الموساد السابق تعجب من طلب نتنياهو الاعتراف من الفلسطينيين بيهودية (اسرائيل)؟ اذ كيف لدولة في طور التشكيل أن تعترف بشكل دولة معترف، بها ويسوق مجموعة من الأولويات ليس أقلها الالتفات لمشكلة اللاجئين التي اعتبرها خطيرة، بما يحصن الدولة والابتعاد عن شروط لا معنى لها.
يحلل الكثيرون أن نتنياهو مستريح كليا للوضع القائم كما قال النائب العربي أحمد الطيبي، لذلك فهو بعيد كل البعد عن التوقيع على أي اتفاق ، بل هو يركن لوضع العصى بالدواليب.
ان المطالبات الاسرائيلية اليوم كما الأمس في ظل عدم وجود عقلية نزّاعة للسلام ستتكرر لهدف وحيد هو التعطيل والتفلت وهدم أي أمل بتحقق التسوية.
الموقف الاسرائيلي الداخلي يدعم مطالبات نتنياهو في شقه اليميني على الأقل ويستبعد الخطر السكاني (الديمغرافي) ، فيما لا يرى الآخرون ذلك ويحذرون من الدولة ثنائية القومية أو العنصرية في دولة واحدة قد يترك فيها حكما محليا للفلسطينيين تحت الهيمنة الاسرائيلية التي هي بالأساس الشغل الشاغل لليمين المتطرف.
إن شرط يهودية الدولة الذي كانت (تسيبي لفني) نفسها من اقترحه لأول مرة في (مؤتمر أنابوليس) عام 2007 وعادت لتؤكد عليه، ليس شرطا تعجيزيا فقط لأسباب عديدة وإنما هو في حقيقة الأمر قناع يغطي وجه ملئ بالبثور يرفض التعامل مع أصحاب الأرض الأصليين ، وينظر لهم إما كشعب زائد عن الحاجة أو كسكان درجة ثانية أو كأغيار لا يليق بهم الحياة الآمنة في بلادهم التي اغتصبوها منهم.
لو افترضنا جدلا أن القيادة الفلسطينية وافقت على الشرط الاسرائيلي المستحيل بأن تعترف أنك لست أنت ، وأنهم هم مكانك حيث لا وجود لك فإن طلبات الاسرائيليين قطعا لن تتوقف وهذا ما قاله (داغان) نفسه ، كما قاله آخرون من المحللين الاسرائيليين أنفسهم وكما أثبتته التجربة . إذن نحن أمام حقيقة ناصعة تتجلى بمحاولة استدراج الضحية للاعتراف بالقاتل بطلا وكأن الدماء التي سالت كانت مياها عادمة.
لن يقبل الفلسطينيون أن ينسفوا حاضرهم الذي تخترقه المستوطنات، ولن يقبلوا أن يدمروا مستقبلهم الذي لن يكون إلا بعودة اللاجئين ، ويرفضون سكب الزيت الساخن على تاريخهم خاصة وهم يتعرضون لعمليات قضم مستمرة للأراضي التي وافقوا على إنشاء دولتهم فيها بحدود 1967 تلك التي لم يعلن مطلقا نتنياهو اعترافه بها، ولا نراه فاعلا.
إن (اسرائيل) (وطن قومي لليهود) أو (دولة يهودية) أو غيرها من التعبيرات هي مجال صراع داخل الكنيست نفسها رغم إقرارهم بها من سنوات مضت، لأن الأطروحة المقابلة هي أنها دولة لكل مواطنيها، فلا ديمقراطية تعيش في ظل عنصرية أبدا ، أذ لا يستقيم أن تكون الدولة (يهودية/ديمقراطية) فهي بذلك تكون يهودية ضد الفلسطينيين وديمقراطية فقط لليهود.
لن نتساوق مع (أرثر بلفور) في الفاحشة التي ارتكبها عام 1917 فما فعله كان الهراء بعينه كما وصف (داغان) أفعال (نتنياهو) في المفاوضات اليوم (2014)، وإن كنا كفلسطينيين قد أعلنا الاستقلال استنادا للقرار 181 عام 1947 فلمن يطلع على القرار يتيقن أنه يتحدث عن أرض (فلسطين) الإنتدابية التاريخية، وليس عن أرض (اسرائيل) التي لم تخلق أبدا، وأنه يتحدث عن المواطنين العرب الفلسطينيين واليهود آنذاك، وليس عن المهاجرين اليهود لاحقا ولا بمنطق قبول اللجوء الفلسطيني أبدا.
إن مسوغ قيام دولة (اسرائيل) هو نفسه مسوّغ قيام دولة فلسطين في ذات القرار الذي لا يصح التعامل معه باجتزاء فإن طبقناه ككل على الأرض والشعب والسياق – ما لا يقبله الاسرائيليون – نكون قطعا قد تعاملنا مع فئتين أو طرفين وليس (قوميتين) لهما الحق الكامل في المساواة الإنسانية والديمقراطية بغض النظر عن التركة التاريخية.
لن يقبل الفلسطينيون أن تكون روايتهم بلا أساس أبدا كما لن يقبل العرب والمسلمون ذلك ، فالأرض واضحة المعالم وتدلل على أصحابها ، والناس المتجذرون بالأرض منذ القدم هم هم لم يتغيروا بغض النظر عمن اختلط بهم عبر السنين.
بإمكاننا أن نكتب أطروحة كاملة حول أسباب التأكيد الفلسطيني واليقين على عروبة هذه الأرض،وعلى امتلاكنا لها، ما يشاركنا فيها المسلمون والمسيحيون معا جغرافيا وسكانيا وروحيا وثقافيا واجتماعيا، وما لا ينفع معه محاولات صناعة "شعب" -أي قومية- لم يوجد أو"أرض" اسرائيلية لم تكن قط، (أنظر كتاب إختراع "شعب" "إسرائيل" للكاتب والمفكر الاسرائيلي من جامعة تل أبيب شلومو ساند، وانظر لكتابه أيضا اختراع "أرض" "اسرائيل") فلا شعب له جذور ولا أرض منسوبة لهم تحت إدعاء – لا يصمد أمام الحقائق – اسمها "أرض اسرائيل".
إن عناصر الاعتراف بأي دولة ثلاثة هي: الاستقلال والحدود والسيادة كما إنه من المفترض بالدولة الجديدة أن تطلب الاعتراف من القديمة، وليس العكس (أي أن فلسطين كدولة جديدة تحتاج لاعتراف تلك العبرية). وفي دولة بلا دستور (كإسرائيل) التي تحكمها قوانين عددها 11 قانون أساسي لا تعريف لحدود هذه الدولة الذي هو مربط الفرس الحقيقي الذي يجعل نتنياهو يقفز للأمام مفتعلا العوائق كي لا يقف أمام نفسه والحقيقة.
يقول النائب العربي في الكنيست أحمد الطيبي في محاضرة له حول يهودية الدولة في رام الله من أيام: نحن أصحب الأرض ولسنا سكانا عابرين ولم نأت هنا بسفينة أو طيارة ، ويريدوننا كفلسطيني 1948 بمكانة دونية مع الأغلبية اليهودية، في تناقض صارخ بين قيمتين (أي اليهودية ذات الأسبقية في قانون الكنيست وبين الديمقراطية اللاحقة عليها)، ويعلق مضيفا: أنه لو قدر لأحد الرحيل عن هذه الأرض فهو من وصل أخيرا .
إن يهودية الدولة ، أو ما يسمونه "الدولة القومية لليهود" حجة لعدم تفكيك المستوطنات، ولعدم الخروج من الأغوار التي تدر عليهم ذهبا، وحجة لعدم رسم حدود الدولة، ولمنع السيادة الفلسطينية بالطبع، وللابتعاد عن ملف القدس الشائك، وعملية مقصودة لتدمير حق اللاجئين، ولطرد الفلسطينيين في وطنهم داخل الكيان الصهيوني.
إن لخصنا طرحنا برفض (اليهودية) كتوصيف لدولة (اسرائيل) القائمة فإنها تتجلى بالآتي :
1. يهودية الأرض : من خلال تأكيدهم على تزوير التاريخ بأنها أرضهم (أنظر دلائل علماء الآثار الاسرائيليين أنفسهم أمثال اسرائيل فلكنستاين، وزئيف هرتزوغ المحاضرين في جامعة تل أبيب ، وانظر ما يقول ولفنسون أيضا) (1) . وفي يهودية الأرض تصبح الضفة الغربية (يهودا والسامرة) في تزوير فاضح آخر للتوراة وإسقاطاتها التي لا تقيم دولة، وتصبح المستوطنات في أرض يهودية أهداها لهم الرب وكأنه مالك عقارات أبدية (2)
ولك أن تتعجب من المؤتمرات الصهيونية قبل الاستقرار على قرارهم بفلسطين من اقتراحات اقامة دولتهم في أوغندا أوالأرجنتين، ألم يكن حينها ليتم تطويع التوراة والتاريخ والسياسة لتكون هذه أرض التوراة والمستقبل، أم ماذا؟ (3)
2. يهودية الناس: يصبح من حق كل يهودي الديانة بالعالم الهجرة لفلسطين بغض النظر عن جنسيته أو قوميته الأخرى وعرقه الحقيقي حسب العلم الحديث (الأنثروبولوجيا)، وبالمقابل ينتزع من الفلسطيني معروف الأصل والقومية العربية اللاجئ حقه ، كما يحشر الفلسطينيون في أراضي الـ 1948 في زاوية متدنية من سلك الانسانية مقابل اليهود الاسرائيليين، وفي قلق دائم لامكانية التخلص منهم.
3. يهودية النظام : إذ تشرع القوانين العنصرية ويصبح لها قوة اعتراف الضحية بالجلاد وتفوّقه، وأنه السيد ونحن العبيد في عودة عجيبة لعصر الرق والتسول والعبودية .
4. يهودية التاريخ : إن سرديات التاريخ المروية في التوراة لا ترقى أبدا لأن تكون حُجة، فهي في غالبها وباعتراف علماء اليهود أنفسهم فيها مجموعة من الأساطير والأحلام والمبالغات والإضافات والأكاذيب والتمنيات على الوقائع ما لا يعتد بها لا كحق تاريخي كي تقيم دولة ، ولا كحجة دينية لا نعترف بها ولا العالم كله .
إن الرواية العربية والإسلامية المتداولة على فرضية الوجود لقبائل اسرائيلية في فلسطين تختلف كليا عن تلك التوراتية، وان تقاطعت في مواضع فإن ذلك بسبب انتشار الاسرائيليات في الرواية التاريخية المتداولة في عصر كان يعتمد على الرواية الشفهية وعلى الكتاب الأسبق وهو التوراة المحرفة قطعا (يحرفون الكلم عن مواضعه)، ولم يكن هناك أساليب بحثية وعلمية متطورة وجديدة.
والرواية التي يتداولها المؤرخون الجدد والآثاريون أي علماء الآثار الكبار أيضا ترفض التطويعات لأحداث التوراة في جغرفيا فلسطين إذ تعتبرها وبالدلائل أنها في اليمن القديم .
وفي كلا الحالتين فإن روايتنا هي أن فلسطين لأصحابها أي العرب وهم الكنعانيين الفلسطينيين، وكل من جاء اليها -ان جاء اليها- كان طارئا كغيره من الأقوام الأخرى ، عدا عن أن تواجد أقوام لفترة محددة من الزمن في أي بقعة من الأرض لا يؤسس أبدا لحق سياسي بعد آلاف السنين من ابتعادهم عنها وإلا لاختلفت خريطة العالم كله اليوم.
5. الدين والقومية : يحاجج الاسرائيليون أن اليهودية "قومية" وهم عدة أقوام (4) وما كان ليوم واحد أن أصبح اليهودي الاثيوبي وذلك المغربي والروسي من قومية واحدة أبدا، فالعلم يثبت دحض هذه الرواية ، كما أن ليس كل مسلم فهو عربي أوقرشي بحيث يأتيك الماليزي ليقول لأنه مسلم فإن له حقا في مكة أوالطائف أو الرياض فكذلك الأمر مع اليهودي البولندي وانتسابه لغير أرضه أو قوميته الحقيقية.
ليقولوا ما يشاءون في خلط الدين بالقومية، وما كنا والعالم ليقول أن الدين بناء قومي مطلقا، فالأعراق والأجناس متعددة. أما (الدول) القائمة فقد تحتوي اليوم بالطبع على أديان وأعراق وأجناس وقبائل ومذاهب متعددة، وعليه لن نقبل حجارتهم الثقيلة التي يقذفوننا بها وكأنهم أسطورة "شعب الله المختار" وما هم بشعب وما كان الاختيار الا للابتلاء، ولا علاقة لله مطلقا بالموضوع.
6. يهودية المستقبل : يطالب الاسرائيليون بيهودية الدولة ما يقرر تهويد القدس والإقرار منا بيهودية ما توافقنا على اقامة دولة فلسطين عليه، وبما يشرع المستوطنات، ويأكل حق اللاجئين قطعا ،ويمزق النسيج الفلسطيني والعربي عبر أوهام تاريخية وتوراتية لا هي علمية ولا قانونية ولا سياسية.
ان المستقبل لأبنائنا على أرضنا وإن ارتضينا العيش بإرادتنا مع جيراننا فإن ذلك لن يكون أبدا
بتشريع أو البصم على الأساطير والتزوير والأكاذيب والاختلاقات والأحلام الخلّبية.
إن المحاولات المستميتة منذ عشرات السنين لتفكيك الرواية العربية والفلسطينية التي تسعى لهدم الفكر والثقافة والتاريخ هي محاولات تهرب من الاستحقاقات السياسية بالرجوع للماضي أو في إطار معارك جانبية (وقد يراها بعضهم أساسية) لهدف أصيل هو أن الاسرائيليين (ولنقل اليمين بشكل صارخ) لا يؤمنون بالآخر من أصله فكيف يفاوضونه أو يعترفون به.
هوامش هامة:
(1) الأرض التي أورثناها بالقرآن لا تعني حتى "قطعة" الأرض المتوارثة بين أفراد العائلة أو القبيلة في فترة زمنية محددة انقضت ، وإن عنت ذلك كما يحلو للبعض أن يفسر فهي مختصة بقوم انقرضوا ، وتعني بسياق لم يعد موجودا من آلاف السنين، عدا عن أن المؤرخين الجدد يتعاملون مع التوراة في فضاء جغرافي آخر غير فلسطيننا على البحر المتوسط، ما يمكن أن تراجع بشأنه الكتاب الكبار أمثال: زياد متي وفرج الله صالح ديب وفاضل الربيعي، وقبلهم كان الصليبي وآخرين. واليكم تفسير الطبري للآيات الكريمة في سورة الشعراء حيث الوراثة لبني إسرائيل-القبيلة المنقرضة أصلا- تعود على البساتين والمياه آنذاك لا "الأرض" التي لم تذكر حتى بالتوراة كما يقول شلومو ساند الا لتعني مسقط الرأس فقط.
http://www.amad.ps/ar/?Action=Details&ID=12723
(2) يقول الطبري أن "الوراثة لبني اسرائيل" كانت للبساتين والمياه للقوم آنذاك وليس لأي "أرض" أو"شعب" تستمر آلاف السنين، ما نورده نصا كالتالي: }في تأويل قوله تعالى: " فأخرجناهم من جنات وعيون ( 57 ) وكنوز ومقام كريم( 58 كذلك وأورثناها بني إسرائيل ( 59 ) فأتبعوهم مشرقين (60 ) "
يقول تعالى ذكره : فأخرجنا فرعون وقومه من بساتين وعيون ماء، وكنوز ذهب وفضة، ومقام كريم . قيل: إن ذلك المقام الكريم : المنابر . وقوله، كذلك يقول : هكذا أخرجناهم من ذلك كما وصفت لكم في هذه الآية والتي قبلها. ( وأورثناها ) يقول: وأورثنا تلك الجنات التي أخرجناهم منها والعيون والكنوز والمقام الكريم عنهم بهلاكهم بني إسرائيل . وقوله: فأتبعوهم مشرقين) فأتبع فرعون وأصحابه بني إسرائيل، مشرقين حين أشرقت الشمس، وقيل حين أصبحوا . {
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=3639&idto=3639&bk_no=50&ID=3666
(3) حسب الموسوعة الحرة أنه: في العام 1903 عرض "هيرتزل" عرضاً مثيراً للجدل بإقامة (إسرائيل) في كينيا مما حدا المندوب الروسي الانسحاب من المؤتمر، واتفق المؤتمر على تشكيل لجنة لتدارس جميع الأُطروحات بشأن مكان دولة (إسرائيل) أفضت إلى اختيار أرض فلسطين.
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B5%D9%87%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها