ليست صحيحة دائماً، تلك العبارة التي يتم تداولها على نطاق واسع والتي تقول "أن تأتي متأخراً أفضل من أن لا تأتي أبداً"، ومما تعلّمته من دراستي للاشتراكية العلمية، نظرية حول "اللحظة المناسبة" هذه اللحظة يكون صحيحا اقتناصها في حينه، لا قبلها ولا بعدها، لا متقدماً قبل نضوجها ولا متأخراً بعد فوات الأوان، هذه النظرية لا تزال صحيحة ومع قناعتي بها إلاّ أنها تبقى نظرية تماماً بالنسبة لي شخصياً، لكني هنا لست في مجال الحديث عني، بل عن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، والذي صرح من العاصمة الصينية بكين بأن واشنطن تعيد النظر بسياستها إزاء سورية، أي تقييم أداء رجالاتها ومواقفها إزاء الأزمة السورية، هذا التصريح يأتي بالتوازي مع فشل مفاوضات جنيف 2، لكن كيري في تصريحه لا يبدو متفائلاً إزاء إمكانية واشنطن لتقييم سياستها إزاء سورية، فهو يضيف "ان الرئيس اوباما اوعز بتقييم الموقف، وان علينا جميعاً أن نفكر في خيارات قد توجد "وقد لا توجد" أي ان فشل سياسة واشنطن إزاء الأزمة السورية، بات أمراً أقرته الولايات المتحدة، لكن، وأكثر من ذلك، فإن واشنطن قد لا تمتلك خيارات إزاء سياسة جديدة حول سورية، أي أن واشنطن تنتقل من مرحلة الفشل إلى مرحلة العجز حتى عن البحث عن خيارات!!
مرد ذلك، باعتقادي، يعود إلى أن واشنطن لم تلتقط اللحظة المناسبة لاتخاذ المواقف الصحيحة الضرورية لتعزيز سياستها في المنطقة العربية، بل التقطت اللحظة غير المناسبة، عندما وفرت للإخوان المسلمين في مصر فرصة الحكم في أكبر وأعظم بلد عربي، كما فوتت لمرة ثانية فرصة تصحيح سياستها عندما حاولت عقاب ثورة 23 يونيو التصحيحية في مصر، من خلال إجراءات عقابية سياسية واقتصادية وعسكرية، مع أنها كانت فرصة لواشنطن لتعزيز علاقاتها وإعادة بعض الثقة بسياستها على المستوى الرسمي والشعبي، غير أنها فوتت هذه الفرصة من جديد، مع إصرار على "صحة مواقفها" التي بات يعلم الجميع باستثنائها، أنها هذه السياسة تسيء إلى الدور الأميركي في المنطقة، وما تشهده اليوم من تراجع في هذه السياسة، والمثل السوري بات أكثر وضوحاً، لدليل على أن الفشل الأهم لدى واشنطن يعود إلى عدم التقاط اللحظة المناسبة.
وإذ تحاول واشنطن الآن، بعد فوات الأوان، أن تعيد النظر إزاء سياستها السورية، فإن الوقت قد فات، بعد أن تغيرت المعادلات على الأرض وفي الميدان، بالرغم عنها وعن أطراف عديدة، ولم يعد بالإمكان تقييم السياسات بعيداً عن موازين القوى على الأرض، وعجز إدارة أوباما عن التدخل عملياً، في تعديل ميزان القوى هذا لخدمة مصالحها وسياساتها، بعد فشل سياستها العسكرية في أفغانستان والعراق، وفشل سياستها في مجال الدفاع عن حلفائها في السعوية ودول الخليج عموماً، فهي عندما أقدمت على الاقتراب من إيران، في الأسابيع الماضية، ابتعد عنها أعز حلفائها في المنطقة، وبدأ هؤلاء في عملية غزل مع النظير الروسي، المستعد دوماً لمد يد العون وسد الفراغ، مع إدراكه أن ذلك سيكون تكتيكياً، أكثر من أنه يعود إلى قرارات استراتيجية، على الأقل في السنوات القليلة القادمة.
ويمكن النظر إلى حماس واشنطن لتسجيل إنجاز ما، مهما كان ضئيلاً على ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، كشكل من أشكال التعويض عن فشل سياستها إزاء الملفات المستعصية في المنطقة، حتى أنها باتت "عدواً" لعدد كبير من قيادات إسرائيل، وتصريحات هؤلاء القادة في الفترة الأخيرة ضد أوباما وإدارته، يشير إلى أن سياسة واشنطن في المنطقة، بما فيها مع إسرائيل، باتت أقرب إلى الفشل.
البعض قد يدعي أن منطقة الشرق الأوسط، لم تعد أولوية للسياسة الأميركية مع أن ذلك لا يوفر مبرراً لفشلها ذلك أن جنوب شرق آسيا بات البند الأول على قائمة السياسة الأميركية، وهذا غير صحيح، ذلك أن واشنطن لم تربح حتى بالنقاط، تلك السياسة في تلك المنطقة، وعلاقاتها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، لم تتغير بل أكثر ثباتاً على ما كانت عليه من دون أن يؤدي ذلك إلى أي تعديل جوهري في ميزان القوى مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
المشكلة الأساسية في السياسة الأميركية، في العالم كله وليس في الشرق الأوسط فقط يعود إلى أن ميزان القوى قد تغير كثيراً، الأمر الذي أدى إلى أن الولايات المتحدة هي التي تتغير بفعل المتغيرات العديدة التي اجتاحت السياسة الدولية، عوضاً عن أن تقوم الولايات المتحدة بتغيير عناصر موازين القوى، باتت هدفاً هي ذاتها لهذا التغيير، ولا أعتقد أن هناك فرصة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه عندما كانت واشنطن ترسم وتخطط وتنفذ.. لقد فات الأوان!!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها