إنطلقت حركة فتح تمخرُ عبابَ التاريخ، وتشقُ عنان السماء، ويستسلمُ المستحيلُ معلناً انكسارَ التحديات أمام عظمة ياسر عرفات، تواصلت عاصفةُ الفتح محطمةً هياكل النكبةِ ومخلَّفاتِها، مؤكدةً ولادة الثورة من أعماق التشرد والمذلَّة، فالطلقة الأولى لم تكن مجرَّدَ طلقةٍ من بندقية، وإنما كانت هبَّة شعبٍ يعشقُ الحرية.
حركة فتح انطلقت بهمة العظماء من طلائع الرواد، حماةِ تاريخ الآباء والاجداد، صُنَّاعِ الفَخار والعزةِ والأمجاد، من ياسر عرفات وأبو إياد وأبو جهاد، وقوافل الشهداء، إلى ما هو قدرٌ آت.
حركة فتح انطلقت عظيمةً بتاريخها، بفكرها، بتجاوزها حقولَ الألغام، بنسفِ واقعِ الظلم والتشرد والآلام، وزرع ِ الأمل بالنهوض والتغيير وتحقيق الأحلام، بطيِّ صفحةِ التشتيتِ والتقسيم والانقسام.
سيرةُ الفتح ظلَّلتها كوفيةُ ياسر عرفات، وتحت أقدام ثوارها تحطَّمت أخطرُ المؤامرات، وأشرسُ الهجمات، وبسواعد ثوارها تحققت الانتصارات، وارتفعت الرايات، وأشرقَ المجدُ إضاءاتٍ وصفحاتٍ، وانفجر الغضبُ الشعبيُّ لهباً جامحاً، وكلُّ ما هو آتٍ آت. تحت ظلالِ كوفيتِكَ، ومن معين رمزيتك ياسر عرفات ارتوى الاشبالُ والزهرات من حليبِ الانتماء عشقَ الشهادةِ والشهداء، ومعانيَ العطاء والوفاء، وبذْلَ الارواح والدماء، وفنونَ الابداع في مواجهةِ الأعداء، فجعلوا من الحجارةِ حجارةَ سجِّيل، من جيل إلى جيل، وجعلوا من السجون والزنازين مصانعَ للثورةِ، وارادةً لا تلين، بوجه السجَّان والجنودِ الحاقدين، والمستعربين، وقطعانِ المستوطنين.
ياسر عرفات برمزيته جعلَ من الفتح أسطورةَ العصرِ، فمن معركة الكرامةِ خرجتْ عملاقةً منتصبة، وبعد الهزيمة اعادت للأمةِ العنفوانَ والعزة، وفي جنوبِ لبنان كانت الملحمة، وفي الاجتياح توقَّفَ التاريخُ العربيُّ بكل فخر، ليسجِّل على كل سطر، بأن الصمود في بيروت كان أسمى آياتِ العصر، وسيظلُّ التاريخُ يهتف بكل إكبارٍ وإصرار طوبى لك أبا عمار، طوبى لك يا ختيار، يا رمز الشعب ومسيرةِ الثوار والاحرار.
هكذا انطلقت فتحُ عظيمةً بعظمائها، وهكذا استمرت أعظمَ بعطاءِ شعبها، وهكذا انتصرت بوفاء شهدائها، وترسَّخت جذورها بصلابة أسراها، وتعملقت بهمة المخلصين من أشياعها.
يا أبناءَ الفتح... ويا أحبَّاء ياسر عرفات... استمعوا إلى وصية الختيار في ذكرى استشهاده، ولا تغضبوا من قوة الكلام لأنَّ فتح الياسر بناها العمالقة وترفض الإذلال.
حركة فتح كانت وستظلُّ مُلكاً لشعب الجبارين فلا تقزِّموها...
هي صورةٌ عن قيم شعبها الأصيل وتراثه فلا تشوِّهوها..
هي أوَّلُ من جمَّع أبناء الوطن الواحد في شتات الأرض فلا تقسِّموها...
هي أوَّلُ من قاومَ وقاتلَ ولقَّن الأعداءَ دروساً قاسيةً فلا تحقِّروها...
هي صاحبةُ القرار الفلسطيني المستقل فلا تدجِّنوها...
هي الأملُ المرتجى في حياة شعبنا فلا تغيِّبوها...
هي التي حملت أبناءَها ورحلت بهم إلى شاطئ الأمان فلا تعقّوها...
هي التي عضَّت على الجرح النازف من أجل كرامتكم فلا تُعهِّروها...
هي التي أعطتكم وما ضنَّت، وذاقت المرَّ وما بخلت، فلا تبخسوها...
هي التي جعلتكم شعباً ولا كلَّ الشعوب، تضاهي بكم أممَ الارضِ فلا تهجروها...
هي التي صنعت لكم كياناً، ومقاماً، وهوية وطنية، فوقّروها...
هي جمَّعتكم، وألَّفت بينكم، وباهت بكم ثوار العالم فلا تطعنوها...
هي التي منحتْ لكم شبابَها، وأجمل وأبهى آياتِ جَمالِها، فردوا الجميل لها واحفظوها...
كانت المؤتَمنةَ والساهرةَ على أهدافِكم وتطلُّعاتِكم فبالوفاء حصِّنوها...
هي الفتحُ سِرٌّ مباركٌ زرعتْه قوافلُ الشهداء بأنامل الوفاء فلا تدمِّروها...
هي الفتحُ تاجُ رؤوسكم ورمز كرامتكم فلا تُسقطوها...
هي الفتح كانت وما زالت منبعاً للعطاء والتضحيات فأَكرموها.
هي الفتحُ جوهرةٌ فريدةٌ لا تُباعُ ولا تُشترى فلا تضيِّعوها...
هي الفتحُ أمٌّ ،من ارتوى من حليبها، وبنى وعمَّر فيها يدركُ جوهرَ معانيها...
الفتحُ هي العنوانُ للعزَّةِ، والحرية، والانسان... هي المنارةُ، ولكل باخرةٍ قبطان، كان ياسر عرفات ذلك القبطان، ولكن كلُّ من عليها فان، ويبقى وجهُ ربِّكَ ذو الجلال والإكرام.
رحل ياسر عرفات، وظلَّت الأسرار، تحضرُ في ذاكرة الأجيال، متسائلةً عن جريمة الاغتيال، عن المخطِّط والمنفِّذ وزارع السُمِّ في جسد أعزِّ الرجال، رجل اختار الشهادة عندما خُيِّر بين الحياةِ والإذلال، رجل اختار الغرفة الصغيرة تنهشُ جدرانَها أنيابُ جرَّافاتِ الاحتلال، ومن بين دمارِ المقاطعةِ صنعَ الختيار المُحال، تحدياً وإصراراً تنحني أمامه جبروت الجبال.
كان في حياتِه مرمىً للسهام، وبعد رحيله أضحى عنواناً للشجاعة والإقدام.
قبل الرحيل وضعوه على مشرحةِ الحُسَّادِ واللئام، وبعد الرحيل راح يَتغنى بمواقفه أصحابُ الرأي وحملةُ الأقلام. قبل الرحيلِ قذفوه بالتخوين والتنازلِ والاستسلام، وبعد الرحيل أصبحَ رجلَ الثوابتِ والقتال. قبل الرحيل حاولوا تحطيم رمزيته وشرعيته، وبعد الرحيل كان الاعتراف والإقرارُ، وكان الاعتذار من رمزية الختيار.
حركة فتح هي ياسر عرفات، وياسر عرفات هو الفتح، ولا انفصامَ بينهما. ولأنَّ حركة فتح قادت مسيرة الشعب، فأبو عمار هو القائد والرائدُ والأب. وقمةُ الوفاءِ والانتماء والحنين، أن تسمع كلِّ المخلصين المؤيدين والمعارضين، يخاطبون أبناءَ الفتح في كل الميادين: حافظوا على حركة فتح متماسكةً قوية، فحركة فتح العصية، تمنحُ الاعتزازَ للبقية، وتصونُ إنجازات القضية. فشكراً للفصائل الأبية... شكراً للمشاعر الزكية... فنداؤكم سيوقظ فينا صلابةَ المواقف الوحدوية، لنبنيَ معاً ونشيدَ صرح الوحدة الوطنية.
رحلَ الرمز ياسر عرفات، وتفجَّرت التعقيدات والتحديات، وازدادت المؤامرات، من الاعتقالات والقتل والاغتيالات، وتهويد الارض والمقدسات، وزَرْعِ الكنس والمستوطنات، وترحيل المواطنين وسحب البطاقات، ودهس الأهالي بالسيارات.
كان عزاؤنا بعد الرحيل أنِ اختارَ الشعبُ أبا مازن زعيماً لهذا الجيل الأصيل، ليحمل أعباءَ هذا الحِمل الثقيل، فانتقلت الأمانةُ من المؤتمنِ إلى الأمين.
وبدأت رحلةُ الصعاب وصراعِ الارادات، وتضاربت الخيارات، وكانت وثيقةُ الأسرى من المعتقلات تحمل أسمى وأدقَّ وأشمل المقترحات، وقّعت عليها مختلف القيادات، وكانت محورَ اللقاءات تخوضها مختلف الاتجاهات، وكان الاتفاقُ بين مختلف التنظيمات، لكنَّ الآمال تحطَّمت تحت كابوس الانتكاسات. ولم تبخل مكةُ على أبناء فلسطين، فكانت الحواراتُ قبل الصلوات وبعدَ الصلوات في رحابِ مكةَ وكعبتِها، وتم التوقيعُ على الاتفاق، ولم يكد يرى الاتفاقُ النورَ حتى غاص في الظلمات.
وكان الانقسامُ بعد عام، وحصل الموتُ الزؤام، وتبدَّدت الأوهام، فأصبحنا نطلبُ السلام أولاً في ديارنا، لا في ديار أعدائنا، وعجزنا عن بلسمة جراحنا، فنزفت دماؤنا، وتفرَّق شملنا، وضاعت آمالُنا، وغرقنا في بحر خلافاتنا، وكان الرصاصُ الاسرائيليُّ المصبوبُ على أهل غزَّة من الشمال إلى الجنوب، ليزيد النزفَ نزيفاً، والدمارَ تدميرا، ويحوِّل المباني ركاماً وعويلا.
كان أبو مازن يدركُ الأبعاد، والمخاطر، ومدَّ اليدَ مصافحاً، تنازل عن كل الشروط والمطالب، وتناسى كلَّ المتاعب، وأعلم الحاضرَ والغائب بأنَّ أيدينا ممدودة، وقلوبَنا مفتوحة، دعونا نتحاور من القلب إلى القلب ففلسطين أكبرُ منا، ووحدةُ الوطن أغلى من أجنداتِنا، فالرحمةُ على شهدائنا، ولننظر إلى المستقبل الذي ينتظرنا، ولنتوحَّد من أجل زرع الأمل في كيانِ شعبنا المُهدَّد. واليوم نشهدُ طيَّ صفحةِ الماضي بلا تردد، فهل تنجح الضمائرُ الحية في سحق آثار الانقسام البلية.؟؟!!
نجحْتَ يا سيادةَ الرئيس في معركة التحدي لأنك خضت معركةَ الشعبِ عنوان الوحدة والتصدي، تسامحْتَ، وتناسيْتَ، وصافحْتَ، ووقَّعتَ من أجل فلسطين، لأعدائك ما لنتَ ولكنَّكَ لنتَ للأقربين من أجل نزع الألغام والأسافين.
في يوم استشهادك ياسر عرفات نعاهدك على التمسك بالبندقيةِ وغصن الزيتون، وأن تظلَّ القدسُ وأقصاها في حبَّات العيون، وأن نتشبَّث بحقِ العودةِ كما يحلمُ بها اللاجئون، وأن لا نتراجعَ عن مقاومةِ ما بناهُ المستوطنون، وأن نفكك مخاطرَ التهويدِ وما يرسمُه الاسرائيليون، وأن نحمي شعبنا من التهجير وكل أشكال القهر الدفين، وسحب بطاقات المقدسيين، وأن نحفظ وصايا الشهداء الميامين، وذويهم الصابرين، وأن نحمل بكل فخرٍ وأمانة رسالةَ الأسرى والمعتقلين، وأن نبقى أوفياءَ لشعب فلسطين، شعب الرباط والقوم الجبارين، وأن نظلَّ على الثباتِ والثوابتِ قائمين، وأن نعيد الحقوقَ ولو بعد حين.
لقد أقسمنا في الخامسة والستين قسمَ الإخلاص لفلسطين، وهذا قسمٌ حرٌّ ترددت أصداؤه عبرَ السنين، وكان أبو عمار وصحبه من الشاهدين، وما زلنا على الدربِ سائرين، قلناها: ثورةٌ حتى النصرِ، والنصرُ وعدٌ من ربِّ العالمين.
سلامُ الله عليك ياسر عرفات في ذكرى استشهادك، نم قريرَ العين، فها هم رفاق دربك بعد غيابِك على عهدِك باقون.
في ذكرى استشهادك السادسة أَبا عمار يعتصر أفئدتنا الألمُ، ولكننا سنظلُّ نتسلَّح بالأمل، ونعاهدك باسم كل الأوفياء والمخلصين، أن نظل على العهد والقسم.
ونعاهدك بأن نحمي ما بنيتَ عبر نصف قرن من التضحيات، وأن نصون ما كرَّست من الإنجازات، وأن نعطيها كما أعطيت، وأن نبقيها رائدةً ومفخرةً لشعوب العالم كما فعلت، وأن نعلي هامتَها لتكون منارةً لحركة التحرر كما سعيت، وأن نغسل شوائبنا وأدران نفوسنا بالمصارحة وكلمةِ الحق كما علَّمت، وأن نجعل كرامتنا من كرامتها، وأنَّ لا معنى لوجودنا في غيابها. نعاهدُك يا أبا عمار أن نواجه كل من يُقامر بمصير فتح لأنها ملك للشهداء، وان نتحدى كلَّ من يريد امتطاء الحركة في غفلة من الزمن فهي مصنوعة من التضحيات والدماء والإباء ونعاهدك أن نبقى متمسكين بنظامها الداخلي لأنه هو الذي يضمن استمرارية حركة فتح.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها