قصية اغتيال "أبو الوطنية الفلسطينية" الشهيد ياسر عرفات تستحق المتابعة الدؤوبة والذهاب بالملف الذي يحملها إلى مداه الأقصى، وأياً  كانت الكلفة والنتائج. فالفلسطينيون، قيادة وقاعدة عليهم واجب لفت إنتباه العالم أن موتهم لم يعد رهناً بنزوات القتل والإجرام الإسرائيلي. وبذات الوقت يجب أن لا يكون قتل قادة وممثلي الشعب الفلسطيني عملاً روتينياً تنفذه القيادة الإسرائيلية لصالح مشروعها العنصري- ألاحتلالي، عبر الترهيب الدائم وتسليط سيف العدوان على رقبة ممثلي الشعب الفلسطيني.

إن إيصال مسألتي أسباب وفاة الرئيس عرفات والمسؤول عن عملية اغتياله- بالسم- يجب أن يرقى إلى الأولوية القصوى. وعليه يجب أن لا تتردد القيادة الشرعية للشعب الفلسطيني في مسألة تنسيب فلسطين إلى المعاهدات والمؤسسات الدولية واستعمال حقها المشروع في الدفاع عن أرضها وشعبها.

فالاستيطان الذي ينهب مقوِّمات مشروع الدولة الفلسطينية التي أجازت الأمم المتحدة قيامها، هو عمل عدائي ضد الشعب الفلسطيني، ولا يستند لغير شرعية القوة المتمادية تحت سمع وبصر العالم أجمع، وبغطاء سياسي ممنهج ودائم من جانب الإدارات الأميركية المتعاقبة.

وإننا أمام فائض قوة استثنائي يمارسه كيان متجاوز لكل قوانين وقيم الأمم المتحضرة، يرفض فكرة تقرير المصير لشعب أصيل في وجوده وعراقة جذوره، هذا الكيان الذي ترفض أدبياته السياسية والثقافية والأيديولوجية أية فكرة لتقاسم أرض فلسطين التاريخية يمارس الخداع والكذب وتزوير الحقائق لصالح فكرة فرض الوقائع التي تحيل حق الشعب الفلسطيني في دول مستقلة إلى وهم لا مكان له للحياة على الأرض.

فمنذ 29 تموز من العام الجاري- تاريخ موافقة القيادة الفلسطينية على استئناف مفاوضات سرية برعاية مباشرة من الخارجية الأميركية- وبناءً على بيان دائرة شؤون المفاوضات، فإن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967 قد وصل حداً غير مسبوق، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية منذ استئناف المفاوضات على بناء 6296 وحدة استيطانية فيما كان العدد الإجمالي في الأشهر الخمسة التي سبقت ذلك 5577 وحدة، ناهيك عن إعلان وزارة الإسكان الإسرائيلي عن مخطط لبناء عشرين ألف وحدة وسط الضفة الغربية، وللمفارقة هنا، سارعت الإدارة الأميركية التي تعتبر الاستيطاني "غير شرعي وغير قانوني" إلى التدخل خوفاً من انفجار المفاوضات التي ترعاها، إذ دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي على "تجميدها".

والواضح هنا أن مسألة الاعتراض على استمرار الاستيطان الإسرائيلي تشكل نقطة تقاطع واضحة بين الشعب الفلسطيني وقيادته، بحيث فقدت الأخيرة صبرها من المحاولات والوعود الأميركية- الإسرائيلية، وحتى من عدم اتخاذ أية إجراءات دولية جدية وضاغطة تجاه الاستهتار الإسرائيلي بأية قوانين تحرِّم عليه خرقها وتحديها.

إضافة إلى ما سبق، لم تزل القيادة العسكرية للاحتلال تمارس الاعتقال اليومي للنشطاء دون أن تتورع من قتل بعضهم، دون أية إشارة إلى مسألة عدوانها على شعب ينتمي إلى دولة تحت الاحتلال.

نتنياهو في الثامن من الجاري صرح وبطريقة أقرب إلى اللامبالاة: يتحمل الفلسطينيون المسؤولية عن تعثر المفاوضات بسبب "عدم تزحزحهم عن مواقفهم"، فيما وزير الدفاع في حكومته- موشي يعلون قلل من أهمية تحذيرات وزير الخارجية الأميركي التي أشار فيها إلى أن فشل المفاوضات قد يؤدي إلى انتفاضة ثالثة.

الرئيس الفرنسي الذي زار فلسطين هذا الشهر، واعترف بمساعدة السلطة الفلسطينية، وطالب الدول الأخرى بمساعدتها، أمسك العصا من الوسط من خلال الدعوة إلى وقف الاستيطان وبذات الوقت إلى تأجيل المطالب الفلسطينية لحق عودة اللاجئين.

مصدر مقرَّب من الحكومة الإسرائيلية أشاع خبراً مفاده أن "الفلسطينيين وافقوا على معادلة "الأسرى مقابل البناء" ولولا التصريح المباشر والواضح من قبل وزير الخارجية الأميركي لتلفزيون فلسطين والقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي بأن "الاتفاق الذي سبق استئناف المفاوضات قضى بإطلاق سراح أسرى مقابل تجميد الفلسطينيين توجههم إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها في الوقت الحالي" لولا ذلك لكان الناطقون باسم حركة حماس وجدوا المادة المناسبة في ذلك للحديث عن فلسطين، وكالعادة بلغة التخوين والتفريط.

وبالمناسبة الحديث عن حماس وناطقيها الرسميين، فإن السيد سامي أبو زهري تلا بياناً باسم حماس اعتبر فيه بيان اللجنة المركزية لحركة فتح "لا يرقى إلى  مستوى الجريمة، ولا يتضمن أية خطوات جادة لكشف المتورطين".

إن الذي يقرأ بياناً بهذا المستوى من الاهتمام والحرص على كشف حقيقة اغتيال الرئيس ياسر عرفات يعتقد ان الشهيد كان قائداً لحماس، التي لم تنعته يوماً بالخائن، ولا شكك قائدها بشهادة عرفات وبالجنة التي ميعاده إليها، كأن حماس لم تنقلب على نفسها وعلى الشرعية الوطنية، لم تبطش ولم تسحل ولم تجز الأعناق ولم تقطع الأيدي والأرجل.. كأن حماس لم تمنع مجرد إحياء لذكراه هذا العام. فحتى أحياء ذكرى ممنوع وبذات الوقت تسمح لنفسها وعلى لسان أبو زهري أن تتحدث عن قضية اغتياله كأن حماس لم تحاول اغتيال فتح في غزة، ولم تطمح لتكرار جريمتها في الضفة. 

السيد محمود الزهار أحد أهم متشددي حماس، اعتبر غزة نموذجاً للمقاومة والصمود، فيما الوقائع تشير إلى مشروع حماس الأصلي ليس فلسطين، إنما استثمار اسمها في المعادلة الإقليمية الخاصة بالإسلام السياسي، وتحديداً المشروع الأخواني، الذي تحالف مع الإدارة الأمريكية، وسعى إلى السلطة بكل ما أوتي من قوة، وما سياسة الاستدعاء والتحقيق والتهديد والسجن التي تمارسها داخلية حماس بحق النشطاء غير الإسلاميين في غزة سوى دليل على أن التمسك بالسلطة هو خيارها الوحيد، فلا المصافحة ولا إنهاء الانقسام أو تفعيل النضال الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي من الأمور التي تعني حماس في هذه المرحلة إنها بصدد تقطيع الوقت على أمل تبدل الأوضاع من خلال المساعي الدؤوبة التي تقوم بها تركيا وقطر من أجل شرعنة سلطتها وانفتاحها على العالم.

لكن  وعلى الرغم من الضرر الذي أصاب قطاع غزة جراء تدخل حماس في الشأن المصري الداخلي، وانخراطها الخطير بلعبة العبث بالأمن القومي المصري خلال حكم الإخوان وفي المرحلة التي تلته، نجح الرئيس محمود عباس في إعادة العلاقة التاريخية بين مصر وفلسطين، وحصل على موافقة أركان القيادة المصرية بتزخيم الدور المصري تجاه دعم القضية الفلسطينية ومساراتها السياسية.

بمعنى  آخر، لعبت حماس، منذ العام 1996 وحتى الآن بطريقة أنتجت وضعاً فلسطينياً كارثياً، بدل مده بأسباب الدعم والقوة. فعملياتها الانتحارية أعادت إنتاج رأي عام إسرائيلي متطرف ورافض للتسوية. شكل انقلابها عام 2007 كارثة للوحدة الوطنية وللنسيج الاجتماعي على صعيد العلاقات الإنسانية بين الأهل والمجتمع الواحد. يشكل تدخلها في الشأن المصري كارثة على صعيد الموقف الشعبي ثم النخبوي والرسمي من قطاع غزة والقضية الفلسطينية استطراداً، ناهيك عن تدخلها الواضح في الشأن السوري. أين المصلحة الوطنية الفلسطينية من كل ما قامت وتقوم به حماس حتى الآن؟

فإذا كنا نؤيد فكرة استقالة الوفد الفلسطيني المفاوض، وعلى الرغم من طلب الرئيس عباس متابعة الوفد مهمته في التفاوض حرصاً على مصداقية وعده المحدد بالتسعة أشهر، إلا أن مسألة بقاء القضية الفلسطينية في دائرة الضوء والاهتمام المحلي والدولي يجب أن لا تغيب عن بال أحد. وهنا المفارقة بين نهجين واضحين، الأول حمساوي، بقصد أو من دون قصد، حاول ولم يزل تقزيم القضية إلى مجرد أداة في يد الإسلام السياسي. وآخر كان ولم يزل يتصرف بالطريقة التي لا تغيِّب فلسطين، ولا تحرمها من كونها نقطة الاستقطاب والارتكاز لكل قضايا المنطقة والسلام الدولي.

بالطبع الوضع العربي ليس بخير، واهتمام النظام العربي لا يصب في صالح القضية الفلسطينية. حتى أن التصريحات التي تصدر عن الجامعة العربية لا تتجاوز بفعاليتها وجدواها لغة المجاملة وتحصيل الحاصل.

الوضع الدولي يتمحور حول النقاط التالية: البرنامج النووي الإيراني والسلاح الكيميائي والحرب الأهلية في سوريا وتداعياتها على المنطقة والعالم. لكن أموراً على المستوى الجيوسياسي تجري في غرب آسيا وفي الحديقة الخلفية لروسيا. هناك تتمركز جهود دولية جبارة لمحاكاة مصالح اقتصادية عملاقة قيد التشكل، ناهيك عن تحالف عملاق السلاح الروسي مع ديناصور الاقتصادي الصيني. كأن ما يجري في سوريا الآن رسم جديد لخارطة الغد التي تبدأ من مصر وصولاً حتى أقاصي آسيا وأوروبا. ما هو موقع القضية الفلسطينية في خارطة تحتاج إلى أسباب القوة لكي تقبل بوضعنا عليها؟

منذ اغتيال اسحق رابين، تبيَّن مدى حضور الأيديولوجيا في الفكر الصهيوني، وانكشفت جذريتها التي لم تتورع عن القتل- حتى لصهيوني متمرِّس في قيادة الحروب وأعمال القتل ضد الفلسطينيين والعرب عموماً.

إن بنيامين نتنياهو ينتمي وغالبية أعضاء حكومته- ليبرمان القادم إلى وزارة الخارجية عيِّنة منها- إلى تلك الحالة الأيديولوجية التي تحرِّم إنتاج تسوية على قاعدة القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية.

المشروع الصهيوني الذي يقودهُ نتنياهو واضح جداً، لذلك يلزمنا سياسة حازمة وواضحة ترد على السياسة الإسرائيلية وتفرض البرنامج الوطني الفلسطيني المعاكس.