برغم ان هاني الحسن يحسب من جيل النكبة، فقد كان في الحادية عشر من عمره حين وقعت تلك التراجيديا التاريخية الخارقة المتمثلة باقتلاع شعب من وطنه، وتشريده في المنافي القريبة والبعيدة تحت تهديد الموت والحديد والنار الا ان هاني الحسن ظل حتى اخر لحظة من حياته الحافلة محسوبا على تيار الشباب، بمعنى انه كان دائما في افكاره وممارساته الميدانية يقفز عن المسلمات السائدة، يتخطى المعايير، وينطلق بحلم كبير، ويذرع في جعل من حوله يرون هذا الحلم يؤمنون بامكانية تحقيقه رغم صعوباته التي تصل الى حد المستحيل.

هاني الحسن الذي انتمى الى حركة فتح وهو يدرس الهندسة المدنية في المانيا، كان مثل شباب فتح الاوائل، لا يضيع وقتا في تكرار التجربة بالدخول في الاطارات التي كانت قائمة وقت حدوث النكبة، لم يذهب الى الاخوان المسلمين او الشيوعيين او احزاب البعث....الخ، بل ذهب فورا الى حيث السؤال الفلسطيني، انه مثل شباب فتح الاوائل لم ينتظر الوهم، لا وهم الوحدة العربية الكاملة، ولا وهم الخلافة الاسلامية! بل هداه وعيه الذي انبثق مبكرا من فاجعة النكبة الى الفعل الذي يعيد للفلسطينين اعتبارهم امام انفسهم اولا، بان يكون لهم حضور خاص بهم، وصوت يعكس حقيقة معاناتهم، وان يكونوا حاضرين في المحافل باسمهم الاصلي، الفلسطينيون، الشعب الفلسطيني، وليس تحت اي من الاسماء المزورة.

وكان السؤال الفلسطيني على هذا النحو هو الذي انتج حركة فتح، لان فتح في انطلاقتها الاولى، في فكرتها الملهمة، في روحها الاصلية، في مبادراتها المفاجئة الخارجة عن المألوف، في صراعها الصعب من اجل قيامة فلسطين من جديد في ارض الواقع كانت دائما هكذا، فكرة غير مسبوقة، روحاً شابة، ممارسة تفوق التوقعات (ابدأ ولا تنتظر...افعل ولا تغرق في الامنيات العاجزة...احضر ولا تغب حتى لو بدا ان اسباب الغياب وجيهة او مقدسة ).

روح الشباب هنا لا تنكفئ حول شهادة الميلاد فقط، وخاصة في انتاج الثورة، بل روح الشباب تتسع لتشمل الانتماء الحقيقي للعصر الذي نعيش فيه وللحلم الذي دونه لا نكون موجودين. وبهذه الروح انطلقت فتح في النصف الثاني من الخمسينيات واطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة في وسط الستينيات وصعدت في منظمة التحرير الفلسطينية الى افق جديد، وقامت بمواجهة عسكرية تتجاوز كل معايير حرب العصابات في معركة الكرامة عام 1968، وبهذه الروح نفسها دخلت فتح في معتركات كبرى على صعيد برامجها السياسية، والدفاع عن القرار الفلسطيني المستقل وخوض غمار المشاركات والمفاوضات بشروط بالغة الصعوبة والتعقيد.

وفي هذا السياق وفي ظل القائد الرمز والملهم ياسر عرفات، فان هاني الحسن كان واحدا من فرسان الحضور الفلسطيني المتوهج، كان دائما لديه ما يقوله وما يفعله، ومثل جيله تماما كنا نحرم على انفسنا ترف البكاء على الاطلال او التحسر على الخسائر، فهذه مهنة شعراء الرثاء، اما صانعو الاحلام الكبيرة والاهداف الكبيرة، فهم من اتباع فلسفة الحضور، بان يكونوا دائما في الميدان فوق خشبة المسرح رقما صعبا يحسب له الاخرون الف حساب.

شاركت مع هاني الحسن في محطتين مهمتين بل مفصليتان، الاولى هي مقارعة الانشقاق الذي رعته سوريا داخل حركة فتح وداخل منظمة التحرير في بداية صيف 1983، كان انشقاقا صعبا ومؤلما للغاية، وكان هاني الحسن ومكتبه في العاصمة السورية يعمل ليل نهار على اسقاط ذلك الانقلاب الاسود كل مبرراته الذي تذرع بها المنشقون، وهم في معظمهم اخوة من قلب العائلة، لا يستطيع احد انكار تجربتهم في تاريخ الحركة، ولانهم كذلك فان الحسم ضدهم كان ملتبسا استغرق وقتا اطول، واستلزم جهدا هائلا ومن نوع جديد، ولذلك اصبحنا في ظل ذلك الانشقاق لا نواجه المنشقين ومن ورائهم فقط بل المشكلة في العديد من كوادر الحركة الذين تحولوا في مواجهة الانشقاق الى وسطاء ليس لهم موقف نهائي هنا ولا موقف نهائي هناك، ظاهرة خطيرة كثيرا ما تنتج نفسها داخل حركة فتح في المنعطفات الحادة، ذلك ان النفاق اخطر من الكفر، لان الكفر يقصي نفسه علنا، اما النفاق الوطني فهو حالة صعبة نصفه في الماء ونصفه في اليابسة واشهد ان هاني الحسن كان مقاتلا شرسا ضد ذلك الانشقاق الاسود.

المحطة الثانية، كان عندما عملت مع هاني الحسن في الاردن بين عامي 1985-1986، كعضو في لجنة العمل الفتحوي التي كان يتراسها هاني الحسن وكنت اتولى ملف الاعلام ورئاسة تحرير صحيفة الفتح الاسبوعية، وكانت لجنة العمل قد شكلت بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان في نهاية عام 1984، وكانت هذه اللجنة هي الحضور العلني والرسمي الاول لفتح في الاردن بعد غياب دام قرابة اربعة عشر عاما، وكانت مظلة هذه اللجنة هي الاتفاق الاردني الفلسطيني الذي لم يصمد طويلا، ولم تكن الامور سهلة، وفي غيابنا عن الاردن كل تلك السنوات قد تشكلت لغة اخرى عن الموضوع الفلسطيني برمته، وعندما بدأنا العمل كانت المحاذير كبيرة جدا، ولكن هاني الحسن كان من الذكاء والمرونة والقدرة على الحضور في اضيق المتاح ? وهي جزء من فلسفة ياسر عرفات اصلا- ورغم ان التجربة انتهت بشكل دراماتيكي ولكن النجاح كان كبيرا.

ملاحظتي الاخيرة في هذه الشهادة التي اكتبها عن هاني الحسن، انني تعرفت عليه ايضا من عيون الاخرين، فعندما كنت سفيرا في اليمن بعد قيام الوحدة اليمنية، كنت التقي بطبيعة عملي مع كثير من السفراء وممثلي المنظمات الدولية من عرب واجانب ولفت نظري بقوة ان بعض هؤلاء كانوا يتميزون بفهم عال للقضية الفلسطينية وانعطافاتها الحادة، وعندما سالت بعضهم من اين لهم هذه الصورة الثرية عن القضية الفلسطينية، كانت المفاجأة الايجابية عندما اخبروني انهم كانوا يدرسون في المانيا وكان لهم زميل دراسة فلسطيني وسيم ولامع اسمه هاني الحسن، تعلموا منه في ذلك الوقت مفاتيح هذه القضية الصعبة العادلة المعقدة التي قال عنها شقيقه الاكبر خالد الحسن ذات يوم: انها تشبه جبل الجليد الذي لا يظهر منه في كل مرحلة الا جزء يسير اما الباقي فيظل مخفيا تحت الاعماق.

 

يرحم الله هاني الحسن:

انه واحد من فرسان ذلك الجيل الفلسطيني، الجيل الفتحوي، الذي استطاع ببطولة ان يحول جرحه الاول الى امل اول، وان يحول الكارثة الى بطولة، والغياب الى حضور.