عندما يخلع المتأدلج المتأجج، من سياقه الدعوي أو الجهادي أو الأممي الماركسي؛ فإنه لا يخرج من القفة ويقف على أذنها وحسب، مثلما يفعل المعتدلون عقائدياً حين يخلعون. هو ينفجر رميماً، ولا يرى سوى نفسه ولا يحسب إلا حسبته. وعندما يحلل المفسرون والنفسيون وضعه الجديد، لا يجدون ما يقولون، سوى أن تأججه في الظاهر العقائدي، لم يكن الغيرة على قضية، أو من منطلق الحب للناس، وإنما مجرد غِل وإفراط في التشهي. وهناك فارق بين المؤمن بحماسة مفرطة، وكاظم الغيظ المحزوق، الذي يتوخى انفلاتاً.

 

طاغية أنغولا " جوسيه إدواردو دو سانتوس" واحد من هؤلاء. خرج من رحم "الحركة الشعبية لتحرير أنغولا" وأصبح وريث قائدها المناضل الثوري والطبيب والشاعر "أوغستينو نيتو" الذي امتزج بالأحرار من كل الأمم، من كل الأديان والقارات، ونال حظوتهم وعونهم، وكان أحد أيقونات النضال الأممي ضد الإمبريالية، أيام كنا نطفو فوق بحيرات الأمل والبشرى، وفي ذروة أحلامنا الوردية، وكان يسارنا ويسار سوانا، يرى في "نيتو" واحداً من صناع المستقبل الاشتراكي الآتي لا محالة!

 

في مستهل الستينيات، تداول جمال عبد الناصر مع كاسترو وتشي غيفارا، في كيفية عون شعب أنغولا للانعتاق من المستوطن البرتغالي، وناقشوا فكرة إرسال محاربين كوبيين مدربين. نصح جمال عبد الناصر صديقيه الثورييْن، ألا يرسلا جنوداً من ذوي البشرة البيضاء، لكي لا تنشأ النسخة الاشتراكية من تلك الشخصية التي ابتدعها المخيال الرأسمالي الأميركي، وقدمها للأمم بعد أن أطلق عليها المعنى الحرفي لعبارة "ذي البشرة البيضاء" في رطانة الأفارقة، وهو "طرزان" الذي كان نصيبه من السينما وحدها، نحو تسعين فيلماً، تفننت في عرض القدرات الخارقة للرجل الأبيض، ناهيك عن الدُمى والدباديب ولعب الأطفال ورسومهم، باعتباره قاهر السود والقرود والكواسر في الأدغال.

 

تحررت أنغولا، ومات "أغوستينو نيتو" ومع رحيل المستوطن ومجيء المستبد، تبددت الأحلام الوردية، وجاء "دو سانتوس" الماكث على صدر البلاد منذ أربعة وثلاثين عاماً. فالنصّاب الماركسي هو قرين النصاب الأصولي، إن خلع واحدهما من فسطاطه، استحال شيطاناً ذا غرائز تتغذى من مولّد فساد، بقوة مئة ميغا.

 

ففيما تنوء أنغولا بفجور النصّاب وفجور ابنته "إيزابيل" التي ابتلعت مع أبيها "بزنس" البلاد الممتد من "لواندا" الى لشبونة البرتغالية عاصمة المستوطن السابق؛ أراد سيادته صرف انظار الناس والكنيسة والعالم عن عفونته وإرهابه، فاتخذ من مئذنتين ومسجدين في العاصمة هدفاً له، وشن الحرب على نحو ثمانين مسجداً صغيراً في كل أرجاء البلاد، تحت عنوان محاربة الإرهاب والإسلام زاعماً أن هذا الدين هو مرجعية العنف الذي سمع عنه ولم يره. والمسلمون 1% من سكان البلاد، وجُلهم من العمال الأفارقة الفقراء، الذين جاءت عائلاتهم من غربي القارة، إبان العهد الاستيطاني، وهم مطعّمون الآن ببضع ألوف من اللبنانيين. ويبدو أن المؤسسة الاستقصائية الناشطة، المسماة "دليل إبراهيم للحكم في أفريقيا" قد أغضبت "دو سانتوس" فاقتص من المساجد. فأخونا الملياردير السوادني البريطاني الحاج محمد ابراهيم، أقام آلية قياس لأداء الأنظمة الإفريقية، وسلوكها مع شعوبها، بالتعاون مع جامعة "هارفارد" وبذل على عملها من حُرّ ماله. منهجية القياس، تختبر الأداء على أربعة محاور: الأمن وسيادة القانون، المشاركة وحقوق الإنسان، الفرص الاقتصادية المستدامة، التنمية البشرية. ولما جاء من بين النتائج أن النظام في انغولا إحدى أسوأ العاهات والبلاءات في افريقيا غضب "دو سانتوس". وربما لاحظ المتقصّون، أن الرجل الذي أخطأه رصاص الغاضبين غير مرة، انشغل عن الشعب بإدارة "جمعية انتاج الماس في إفريقيا" يساعده ابناؤه وبناته من زيجات ثلاث معلومات، ومعهم أخ لهم من غير زيجة.

 

مثل هذه السحنات، تجعلنا نتذكر أيام أحلامنا الوردية، عندما كنا نختلف على كِشك الجيران أو الأبعدين، ونتوهم أن خراج كل غيمة سيكون لنا ولشعب الأرض التي يسقيها مطر الغيوم. فها هو الرفيق "دو سانتوس" يفيدنا كيف أن الرياح جاءت بما لا تشتهيه سفن الأحرار الطيبين، ويذكرنا بأننا في زمن أغبر.