لا شك بأن العملية التفاوضية المجردة، وفي كل حالاتها، تعتبر شكلاً من أشكال العملية الصراعية المستمرة. وهذه القاعدة تنطبق تماماً على المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية، في محاولة للوصول الى حلول عادلة لازمة الشرق الاوسط وبالدرجة الاساس القضية الفلسطينية وقضية الشعب الفلسطيني. الا ان العملية التفاوضية، يجب وبالضرورة ان يتوفر لها "عدتها"، او شروطها ومستلزماتها. وهو ما لا يتوفر لهذه العملية في المسار الفلسطيني – الاسرائيلي. حيث ان الجانب الفلسطيني الذي دخل المفاوضات وبكل اشكالها الجماعية او حتى الثنائية كان يحاول صادقاً وتجاوباً مع المبادرات الدولية والقرارات الاممية، الوصول بالمفاوضات الى نهايات سعيدة، تحفظ الحقوق وتعيدها الى اصحابها الحقيقيين. الا ان الطرف الاسرائيلي وعلى مدى كل جولات المفاوضات، وبغض النظر عن شكل الحكومة اوالمفاوض المكلف، كان يوصل هذه المفاوضات الى الحائط المسدود، من خلال الاسترسال في رفض المفاوضات والوساطات الاقليمية والدولية، وحتى القرارات التي يجمع عليها كل العالم، بما فيها القرارات التي اعتبرت الاساس "القانوني" الدولي لاقامة كيانه. وعلى هذا الاساس درج القادة الاسرائيليون، ومنذ اقامة دولتهم الغاصبة للارض الفلسطينية على التنكر لهذه المبادرات والمحاولات التفاوضية ومنعها من الوصول الى الغايات المرجوة.

 الا ان السؤال المنطقي حالياً يتعلق حول مصير الجولة الحالية من المفاوضات، وهل ستسفر عن أي تقدم؟ أم سيكون مصيرها كسابقاتها التي ضاعت مع الرياح بسبب التعنت الاسرائيلي، والاصرار على تنكر الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وعدم تقديم اي تنازل يذكر بل على العكس تجريده من المكتسبات حتى تلك المدعومة من أعلى المراجع الدولية والتي يجمع عليها العالم. فاذا كان المفاوض الفلسطيني، وفي كل مرة يذهب الى جولة جديدة من جولاتها يذهب صادقاً وراغباً للوصول بها الى شاطئ الامان والتطبيق، في محاولة وثقة منه في نقل قضيته الوطنية من مرحلة الحتمية التاريخية المشروعة الى مصاف الامكانية الواقعية التي على أساسها يعتبرها المفاوض الفلسطيني ترجمة لمقولة "الواقعية" السياسية على اعتبار انه يدرك جيداً موازين القوى الاقليمية والدولية وكذلك الاوضاع الداخلية التي تفقده الكثير من عناصر القوة بحيث لم يبق له الا الحق التاريخي الذي من خلاله سيصل حتماً الى ترجمة حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والوطنية وثوابته المكتسبة على مر السنين والتي استطاع الوصول اليها عبر سنوات كفاحه ونضاله والتي كان بأغلبها ان لم يكن جميعها تحصّل عليها عبر نضاله المسلح ودماء ابنائه من شهداء وجرحى ومن خلال عذابات آلاف المعتقلين والاسرى والتي لا يجد العالم مثيلاً لها على طول الارض وعرضها. والآن ماذا على المفاوض الفلسطيني ان يفعل في ظل هكذا ظروف؟ هل يوقف المفاوضات ويعود للوراء؟ ام يغير اسلوبه وبالتالي اسلحته التفاوضية وطريقة تعامله معها. وهذا أمر مشروع ومنطقي يلجأ اليه عادة اي طرف في أي عملية تفاوضية، وفي حال تعذر وصولها الى نتائج ترضي طموحه وحقوقه الوطنية، كما هو الحال اليوم فلسطينياً، على اعتبار ان الطرف الاسرائيلي حالياً هو الطرف الوحيد الذي يستفيد من المفاوضات، وجولاتها، بحيث يستخدمها كغطاء لممارساته واعماله الاستيطانية والتهويدية للارض، واقتلاع الشعب الفلسطيني وطرده خارج وطنه ومدنه وقراه. او على الاقل جعل اقامته فوق وطنه ضرباً من ضروب المحال البالغة، التي تدفعه الى الهجرة في النهاية، وتركها للمستوطنين الجدد القادمين من اصقاع الارض، والذين لا يرتبطون بها لا من قريب ولا من بعيد، سوى ذلك الوعد المخادع. والآن ماذا بعد وما هو الممكن امام المفاوض الفلسطيني. هل يوقف المفاوضات ويرفضها من الاساس ويعود لقضيته الوطنية الى مربعها الاول، وهو ما لا ندعو اليه الآن وفوراً. وخلال هذه المرحلة الحالية على الاقل، هناك اختلال كبير في موازين القوى والتي هي ليست لصالح الشعب الفلسطيني، فالمتغيرات الدولية التي بدأت في الربع الاخير من القرن الماضي، التي ما زالت مستمرة حتى اللحظة، والمتغيرات العربية والاقليمية التي بدأت قبل عدة سنوات، والتي لم تنته فصولها حتى الآن لا تسمح للمفاوض الفلسطيني " قلب الطاولة" على رؤوس الجميع. فاذن، ماذا يمكن ان يفعل المفاوض الفلسطيني. والاجابة على هذا السؤال بسيطة جدا وبناء عليه يجب اتخاذ الاجراءات والخطوات التالية:

1- ترتيب البيت الداخلي وتوحيده عملياً وسياسياً وهو أمر بالغ الاهمية.

 2-  تأمين شبكية الامان العربية والاسلامية على اعتبار ان الأمتين هما اصحاب مبادرات ما زالت مطروحة للحل على رأسها المبادرة العربية.

3-  تأمين أوسع تحرك دولي خصوصاً لدى الدول والمؤسسات المؤيدة للحقوق الوطنية الفلسطينية لدفعها للتحرك الجاد والقوي، لاجبار اسرائيل على الانصياع لقرارات الشرعية الدولية. 

لانه دون هذه الشروط والمبادئ تصبح جولات المفاوضات الحالية او حتى المستقبلية ضرباً من ضروب الترف السياسي وبالتالي المضر بالمصالح والحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني.