ترجّل سمير السكسك (أبو خميس) من قاطرة الدنيا الفلسطينية. كثيرون، ممن في القاطرة، لم يعرفوه ولم يتنبهوا لوجوده ولا لوجعه الأخير، ربما لأنه اختار مجلسه في موضع خافت الضوء، لم يبرحه ولم يضجر منه. أو لعل انشغاله بـ «المعلومة» وبأن يكون على معرفة بالجميع، وأن يرسم صورة أقرب الى الواقع، للحال العام، ولمواقف الجوار القريب والفضاء البعيد، من فلسطين ومن قضيتها ومن قيادتها؛ قد أوجب صمته. وفي الحقيقة، ما زال هناك في القاطرة، مستنكفون عن الكلام، لا يختلف شأنهم، عن شأن الجالسين في محطة انتظار شيء لا يأتي!

عرفت سمير السكسك مبكراً. كان من الكوادر الأولى لأمن الثورة الفلسطينية، مفعماً بحماسة الشباب. شديد الحساسية والغيرة حيال ما يعتقد، بخصوص منهج العمل وما يقتضيه من تحالفات وخيارات في الناس وفي الأنظمة. قليلون هم الذين سمعوه يتحدث باستفاضة، وبأريحية تُحفّزه عليها ثقته بقدرة الصديق على الكتمان. فهو رجل في الظل، كان يكتفي من متطلبات الحضور، في أيام «أبو عمار» بمجرد المعرفة، أو المشاركة في العمل الكامن وراء الموقف المشهود!

كلما وقعت الواقعة، وأغرق الجمع نفسه وتبدد، كان «أبو خميس» يتعلق بيافا، المدينة والفكرة، عروس البحر التي انفتحت عبر التاريخ، على آفاق رحبة، وتعددت عند مرفئها خيارات الإبحار. هي مدينة عائلته ومهوى فؤاد أبيه الذي غادرها ولم تغادره، فذهب الى الصحافة لكي يكتب بوحي من ألم فقدانها. بعد الزلزال الذي عصَفَ بوجودنا كمقاومة من الأردن؛ غادر «أبو خميس» بهمّة ربّان لا يهاب البحر، قاصداً التحصيل العلمي في الولايات المتحدة. وفيما هو يدرس، جاءه المرحوم حَمد العايدي (أبو رمزي) لغرض آخر. و»حَمَد» هو شريك «أبو جهاد» في الخلية الأولى المسلحة للمقاومة، قبل «فتح»، ولحياته حكاية مثيرة لا يتسع المقام هنا لتلخيصها. ولأن الأميركيين كانوا يتابعون «حَمَد» فقد أبعد «أبو خميس» بعدئذٍ من أميركا، ثم انتهى به المقام في الكويت. هناك، حيثما كان العمل الفلسطيني على أشده، وكان «أبو إياد» يحضر بين الحين والآخر، واصل عمله الفلسطيني في الظل وفي صمت، بمحاذاة عمليْن آخرين: صباحاً في الخطوط الجوية الكويتية، ومساء في صحيفة «كويت تايمز». وكان من الطبيعي بالنسبة له، أن يرفض غزو العراق للكويت بخلاف ضجيج ردود الأفعال المغايرة على الحدث، وعُدَّ بسببها الفلسطينيون مؤيدين لاحتلال الكويت، وهذا لم يكن دقيقاً ولا صحيحاً. وكان «أبو عمار» حريصاً على أن لا ينخرط فلسطيني واحد، في النـزاع، وطلب من سمير السكسك أن يغادر متخفياً، عن طريق بغداد نفسها، على أن يحمله «أبو عمار» في طائرته عائداً من زيارته الأخيرة لبغداد قبل الحرب. ظل بعدها «أبو خميس» منـزوياً يؤدي ما يُكلف به من عمل، ويرتب الوقائع في ذاكرته، كأنه يُودعها في إرشيف سيُتاح له وللمطلعين العودة اليه ذات يوم. كان شاهداً على الوقائع الأخيرة قبل الانقضاض على «الختيار» الذي أحبه «أبو خميس» بلا حدود. بعدئذٍ أقعده المرض، وبالكاد حضر المؤتمر السادس للحركة صامتاً كعادته. سألته عن ابنه خميس، وتذكرنا يوم أن مررت بالكويت وذهبنا معاً لإدخاله الى المدرسة للمرة الأولى. لقد غيّب الموت الحق سمير السكسك. له الرحمة، وسلام عليه حيث يرقد في مثواه الأخير!