بقلم: بكر أبو بكر

إن الكتابة في القضايا "الصُغرى" بعيداً عن "كُبريات" قضايا السياسيين كمثل الكتابة بالإدارة وما يتعلق بها من فنون وأساليب من تخطيط وتنظيم ومتابعة واتصالات وتعاون وإدارة وقت وقيادة، هي من صلب العملية الاتصالية في الحياة، حياة الإنسان، والتي تستهلك من وقته أكثر من 90% كما تعلم ونعلم جميعاً نحن من ذوي الحرص على التعلُّم، وهي وإن فجع السياسيين قضايا كبرى.

لذا فالخوض في هذا الأمر هو خوض في ذات الفعل الإنساني اليومي المستدام، الذي تقف أمامه تلك الأمور "الكبيرة" فاغرة فاها، منبهرة حين ترى نفسها بمواجهة هذه الحمولة صغيرة صاغرة.

لربما يظن البعض أنه بابتعاد فكره أو إرساء قلمه عن الخوض في القضايا "الكبيرة"! انتقاصاً وتراجعاً بينما في حقيقة الأمر أنَّ لا قضايا "كبيرة" أو صغيرة إلا ما نراه نحن مؤثراً في حياتنا.

بمعنى أنَّ التخلص من حكة جلدية تصبح قضية كبرى لدي، وتتعملق أمام تلك القضايا "الكبرى" مما يظنها البعض "كبرى"، ولربما تكون رعاية أبنائي ليكونوا على المحجّة والصراط والدرب القويم هي "الكبرى".

وقد يرى غيري قعوده بالمنزل بلا عمل قضية "كبرى" كما تكون لقمة الخبر لعامل أثيوبي أو بنغالي أو فلسطيني قضيته "الكبرى" وهكذا.

المجال الحياتي بكل مساحاته، وإن اشتمل على مساحات متعددة، يلتقي قطعاً في المساحة الاتصالية التي تستهلك جل وقته بين النظر والتأمل والاستماع والقراءة والتعلم والحديث والإيماء والإشارة.

 أنت حتى وأنت جائع أو تعاني البطالة أو الكآبة أو في حالة الفرح أو الانتكاس، وأنت حتى لو كنت سياسياً "كبيرا" أو رجل مهمات صعبة، أو عالم جليل أو اقتصادي جهبذ و"كبير" فأنت إنسان.

 نخوض في الحياة بمنطق التواصل الذي لا تستغني فيه أنا وأنت عن قضاياك "الكبرى" وغيرها ثانوي أو هامشي أو سيأتي وقته.

 أنت لا تستغني عن آليات تعاملك مع الآخرين، حيث المحيط يكبلك أو يحررك، لتبرز منك النظرة والإيماءة ومدى تقوس الحاجب، ولغة العيون، وهز الكتف وإشارات اليدين وحركة القدم مترافقاً مع المنطوق أو اللامنطوق من الكلام فتكون إنساناً متواصلاً.

 كيف ومتى وأين ولماذا تساؤلاً تبرز صاعدة في سلسلة اتصالية لا تتوقف حيث نخوض قضايانا "الكبرى" والصغرى، فمهما كنت في خضم أي من قضيتك أو قضية جماعتك "الكبرى" لا تتوقف.

إلى ذلك ما بالك بمن يسعى للقضية "الكبيرة" حقاً، وهي أن يفهم عِلّة الخلق، وهدفه، وطبيعة العلائق القائمة بين مختلف المكونات التي تشكل خريطة حياة الإنسان.

إن الإنسان وهو يدري أو لا يدري قطعاً يعالج القضية "الكبرى"، قضاياه الكبرى، ولا يخرج للصغائر أبداً وعلى منوال المصلحين الكبار والأنبياء وقادة الرأي والطليعة والمفكرين نسير معاً.

 حينما تكون الرسالة هي "الكبيرة" لا يصبح الكبير إلا ما نريده أن يتحقق كهدف أي كان هذا الهدف، فبما يتعلق بالشأن الفردي لكل هدفه ومساره وآليات تواصله لا يهمه حينها القول ب"الكبير" والصغير، فلكل من حياته مساحة حيث تتقدم الأولويات حينا وتنكمش الثانويات قطعًا تلك التي يراها الآخر مختلفة.

هنا تبرز العقلية الجمعية عبر العمل المنظم سواء في الجماعة من تنظيم أو حزب أو مؤسسة أو شركة لتضع أمام العناصر أو العاملين الهدف الجامع والفكرة والطريق، وببساطة تضع المنهج (منهج العمل ومنهج الحياة في آن) الذي منه يسعى المجموع لتحقيق الهدف "الأكبر".

كلما استطعنا التوفيق بين الهدف العام "الأكبر"، وبين أهدافنا الشخصية "الكبرى" كلما استطعنا أن نصنع عقلية الجماعة وفريق العمل.

كلما قفزنا من مربع التناقض والتشاكل إلى مربع التواءم والتلاؤم والتناغم والتكامل نحقق معادلة الهدف/الخطوة الجمعية/الجماعية بأن تكون ذاتها هدفي وخطوتي الفردية أي تقود للهدف الذي هو جماعي والذي هو فردي.

  أشكر لمن أتاح لي فرصة التأمل والتفكر هذه في الكبير والصغير فطرقت معه بوابة المواضيع الإنسانية الإدارية الاتصالية الهامة بدءا بالوعي والفهم عبر القراءة، والتي يعد الخوض فيها مساحة "كبرى" وليست هامشية أو تافهة أو صغرى كما قد يظنها أغبياء السياسة والاقتصاد والمجتمع.

أغبياء أو أدعياء السياسة والإعلام والاقتصاد والفكر والفن والمجتمع الذين يظنون القضية "الكبرى" مرتبطة بأعناقهم الطويلة دون الناس وهمومهم "الصغيرة"، هم المنحرفين عن السياق، وما يفعلونه بالفضائيات يشكل انحرافاً يمثل حقيقة ألاعيبهم وأكاذيبهم، وصورهم المنمقة الباهتة على الشاشات ظانين وظنهم آثم قطعًا أنّ مجرد صعودهم على رقبة الناس بركوب الفضاء ليعبروا عن قضية سياسية ما عامة هو القضية "الكبرى"! حيث الاندغام بين الشخص والقضية يصبح صورة مركبة مشوهة، وهم بحقيقة الأمر أصغر من عقب السيجارة بعد امتصاص الروح منها.

إنَّ المسار الصحيح في العلائق الإنسانية، ونور الجماهير، ومنها العلاقات في محيط البيت والعمل والأسرة والحزب والوظيفة والجامعة والمدرسة، يسير جنباً إلى جنب مع القضايا الإدارية/الإنسانية التي لا غنى لحزب أو شركة أو مؤسسة عن تعلمها وهي على ذات الجدية والأهمية مع تلك القضايا السياسية والفكرية والاقتصادية سواء بسواء.

 ونحن في التنظيم السياسي (أو المؤسسة والشركة) ننجح عندما نضع أمام الناس قضيتنا "الكبرى"، نحن كطليعة عندما نضعها أمامهم لتكون قضيتهم الكبرى هم، فتسير جنباً إلى جنب أو مندغمة ومندرجة في سياق النفس الخارج من الرئتين، وفي نظرة عيونهم وفي لمستهم لشعر أبنائهم، وفي طعامهم... وحلهم قبل الترحال وقد ننجح حينها ونسرج خيولنا ونفوز.