التحليلات الإستراتيجية بدأت تتحدث صراحة عن موقع متقدم للعرب في مجالي الديمقراطية والحداثة برغم ما يعترض المسيرة من عوائق ومصاعب. تضيف التحليلات أن إسرائيل المتطرفة والمنغلقة واقعاً، بدأت تتحسس بدايات خسرانها امتياز كونها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وبدل ذلك راحت تمعن التشدد تجاه انتزاع اعتراف الفلسطينيين والعالم بأنها دولة يهودية، وتسرع الخطى نحو عنصرية تكشف معالم مخاطرها في مجزرة  أوسلو مؤخرا وبانت بعض خيوط العلاقة المتسلسلة بين أقطاب العنصرية الجديدة في إسرائيل وأوروبا بشكل جلي.

مقابل ذلك نرى بدايات الدولة الوطنية- الديمقراطية، ذات الشرعية الجماهيرية في عدد من البلدان العربية، دون أن نغفل دولاً أخرى تسير في ذلك الاتجاه.

الحكومة الإسرائيلية تعاني دوّامات عديدة حالياً، ولا تملك من الاوراق حاليا غير الحصول على فيتو اميركي جديد، يضاف إلى "كدسة" الفيتوات التي فضحت الاحتكار الأميركي لملف مشكلة لا تريد لها الادارات الاميركية المتعاقبة أن تنتهي بتسوية- ولو مختلة لصالح الكيان الإسرائيلي.

الفيتو الذي سيُلْقىَ في المرحلة الثانية على طاولة مجلس الأمن لن يكون كسابقيه، لأنه سوف يترك علامة بالغة في العمق تجاه كراهية المواطن العربي لساسية الراعي الاميركي الاعمى لأبشع استعمار استيطاني شهده العصر الحديث.

ليس عابراً أو شكلياً ما يجري من تحركات جماهيرية في الكيان الاسرائيلي الآن، بل هو فيضان التراكمات المؤجلة منذ عقود عدة، اجلتها حكومات الاحتلال تحت عناوين الطوارىء والمخاطر التي تتهدد كيان الاحتلال. وهو استحضار للربيع الجماهيري العربي الذي بات يفرض إيقاعه على العقل الصهيوني– الموغل في الارتداد عميقا نحو نماذج القرون الوسطى من الانظمة الايديولوجية- الاستبدادية- الاستعمارية. إنها انتفاضة ضد الخلل الطبقي الذي زاد الفقراء فقراً والاغنياء غنى وعلى حساب محدودي الدخل والفقراء في المجتمع الذي ادعوا- منذ قيام الكيان الصهيوني- أنه مجتمع البحبوحة والرغد والرخاء الاقتصادي.

إن انخراط عينات من مختلف الطيف السياسي الاسرائيلي في التحركات الجارية منذ أكثر من شهر، هو تعبير عميق عن زوال الرعب الاسرائيلي من السياسات التخويفية التي كانت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تستحضرها دائما لإسكاتهم وإنزالها عن سلم أولويات مطالبهم، هي دليل على عمق الازمة وعدم إمكانية تأجيلها إلى مراحل لاحقة ، ودليل على أن مشاريع الاستيطان التي تقام فوق الارض الفلسطينية المغتصبة وما يدفع لتمويلها من مبالغ ضخمة، لا تعني تلك الفئات ، بقدر ما تعني الرعاية الايديولوجية- السياسية لمشروع  تأبيد الاحتلال وفرض واقع استحالة قيام الدولة الفلسطينية ، حيث خرجت أصوات عديدة تتحدث عن اتساع الاراضي المحتلة عام 1948 وقدرتها على استيعاب المشاريع الإسكانية اللازمة لتخفيف ازمة السكن والحد من ثمن العقارات الباهظ وإيجارات الشقق.

والجمهور الفلسطيني لا يبدو أن صمته سوف يطول بعد، فلديه كل الأسباب والمحفزات لخوض ربيعه الاستثنائي في وجه الصلف الصهيوني المتمادي، والانحياز الأميركي المركب على عاهات استراتيجية وأخلاقية وعنصرية، وفي وجه اللين الأوروبي الممجوج والناتج عن عقدة ظلم أوروبا  اليهود في بلادهم الاصلية، وبالتالي تسهيل سوقهم إلى محرقة وسمَت وجه القارة بأكملها بعار إسهامها في إنضاج كراهية مكتملة المواصفات والملامح ضد ضحاياها، فيما جميع  دولها الآن باتت مدركة أنها مسهمة في الواقع المأساوي الذي يعانيه الفلسطينيون منذ أكثر من ستة عقود، جراء كل المسألة اليهودية على حساب شعب فلسطين الذي لم يكن له علاقة له بالمشكلة اليهودية أصلا.

القيادة الفلسطينية- الآن- تستثمر لحظة تاريخية تجاه تكريس الحق الفلسطيني وإنتاج شكل معنوي- قانوني- سياسي ونضالي للمرحلة القادمة من الحرب المستمرة، والتي لن تتوقف حتى الاستقلال الكامل والناجز للدولة الفلسطينية فوق كامل الأراضي المحتلة منذ الخامس من حزيران 1967.

الحجج والادعاءات والتهديدات الأميركية- الإسرائيلية بائسة ومفضوحة. وسنوات طويلة من المفاوضات أظهرت أن لا وجود للحق الفلسطيني في العقل الإسرائيلي، ولا وجود للحياد في مفكرة الاستئثار الأمريكي بملفي الصراع والتسوية. الاستيطان نهش الأرض الفلسطينية ولم يزل، وبرعاية كاملة من حكومة نتنياهو، فيما الحكومات الأميركية لم تسوِّق إلا التبرير والتعامي عن كون ذلك تجاوزا للقوانين الدولية واعتداء موصوفا على الحقوق الوطنية لشعب فلسطين، فالسيد  أوباما مثلا نطقها بالفم الملآن: لا عودة إلى حدود عام 1967.

الحكومات العربية ستكون مضطرة هذه المرة إلى التعامل الإيجابي مع مقتضيات الموقف الفلسطيني الساعي لإنجاح خطوته التاريخية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا يبدو أن هذه الحكومات سوف تستجيب للضغوط الأميركية المكثفة لمنع وصول الملف إلى نهايته السعيدة، حيث لا شيء في الجعبة الأوبامية لكي تعِد أو تتعهد به، لا شيء سوى الضغوط التي تفترض إخضاع العرب وتأكيد سطوة البيت الأبيض على القصور العربية كلها.

الاضطرار العربي نابع من كون الحكومات بحاجة لإعادة تظهير القضية الفلسطينية كبعد تاريخي يتضمن كل أسباب اختراق ضمير المواطن العربي، وكون هذه الحكومات تحاول المبادرة إلى تصالح نسبي مع جماهيرها ولو من البوابة التي تختصر جانباً معنوياً لتلك الجماهير، وكون الأعباء التي تقع على إدارة أوباما حالياً ثقيلة إلى درجة تبدو معها هيبة أميركا أقرب إلى الاهتزاز وانعدام الثقة وفقدان السيطرة ايضاً.

سوف نشهد اختلافاً في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية بسبب احتقار إسرائيل لمبادرة الملك عبد الله، ولبروز نفوذ تركي منافس  في إدارة اللعبة السياسية في المنطقة على حساب الدول العربية الكبرى كمصر والسعودية وغيرهما، إضافة إلى أن زمن دور الوسيط- السمسار الذي لعبته الحكومات المصرية المتعاقبة منذ كامب ديفيد ولى زمانها. وسوف تستفيد المجموعة العربية هذه المرة من رئاسة لبنان للجمعية العمومية للأمم المحتدة، والتي تعقب رفع العلم الفلسطيني فوق سفارة دولة فلسطين في العاصمة اللبنانية ، التي زارها الرئيس محمود عباس أواسط الشهر الجاري ، ونسق الخطى مع مسؤوليها. كذلك سوف تستفيد هذه القيادة من رئاسة قطر لمجلس الامن الدولي – رغم شكلية تمثيلها فيه.

يحق لإسرائيل أن تشعر بالفزع، وأن تراجع خياراتها على المستوى الاستراتيجي، فهي عادت إلى الفيتو- او القلعة، وباتت معادلة الشرق الأوسط الجديد لا تسير على سكة بوش الابن ولا على سكة أمهر طباخي المحافظين الجدد وورثتهم من مراهقي السياسة في البيت الأبيض.

فالديمقراطية باتت تجيز وتفترض وجود رأي عام يجبر الحاكم على سماع الصوت وبالتالي الخضوع لإرادة الشعب. ذلك لا يعني اضمحلال أو تلاشي الهيمنة والقوة الأميركية، لكن ذلك يعني بالمقابل أن هذه القوة لم تعد قدراً محتوماً على الدول والشعوب. يكفي أن نرى الارتداد الأميركي في العراق، والارتباك في أفغانستان، والهروب في ليبيا ومنها، والضغط بالواسطة عبر تركيا على النظام في سوريا، ومنح مساحة كبيرة للسعودية ومجلس التعاون الخليجي في إدارة أزمة اليمن.

كل ما سبق، لا يعني أن الفلسطينيين ذاهبون للتنزه في إحدى حدائق الجمعية العامة للأمم المتحدة: فهم سيواجهون ضغوطاً كبيرة قبل وخلال وبعد طرح مسألة الاعتراف بدولة فلسطين. الضغوط سوف تذهب إلى محاولة عزلهم، وإلى حرمانهم من المساعدات المالية والاقتصادية، وإلى إظهارهم كمعيقين للتسوية المعاقة والمحتضرة منذ أكثر من 15 سنة متواصلة، فيما الجزء الأهم هو التضييق والحصار والتجويع، إضافة إلى القرارات والقوانين التي سوف يحصل عليها غلاة اليمين والعنصرية ضد الأرض الفلسطينية وشعبها وقيادتها أيضا من برلمان ًلا يختلف عن عقلية غلاة التطرف في الحكومة الاكثر يمينية في تاريخ الكيان العبري.

الطبيعي أن يكون للخطوة الفلسطينية فاتورتها الكبيرة- المحسوبة، لكن القيادة الفلسطينية الآن تقف امام خيار ضرورة كسر النمط والتقليد الذي ساد فترة طويلة في التعامل مع قضية الاحتلال، بدءاً من المرجعية والراعي والأسلوب، وذلك يعني أن اتفاق أوسلو أصبح خارج الواقع من جهتيه الفلسطينية والإسرائيلية معاً، وبالتالي بات هناك ضرورة لإشراك دول العالم ومؤسساتها الحقوقية والقانونية والانسانية في معركة فضح الاحتلال والكف عن مساندته ورعايته- بذل الاستثنائي من الجهود لعزله واضعافه، ثم العمل على دفع عجلة العدالة الدولية لتكون الحكم الفاعل بين الشعب الفلسطيني المضطهد وسلطة احتلال لم تتوان عن اضطهاده يوماً.

في هذه المرحلة يلزم الفلسطينيون قفزة نوعية باتجاه تكريس الوحدة الوطنية. يلزمهم إطلاق يد الشارع الفلسطيني ومنحه المساحة الكافية لإعادة الاشتباك الجماهيري مع الاحتلال ووضعه في خانة المدان في قوانين وأعراف وأخلاق العدالة الكونية وعلى المستويات كافة.

الشعب الفلسطيني سوف يعيش فترة ضيق سياسية واقتصادية، لكن لا خيار لديه إلاّ المبادرة للمواجهة.. عليه الآن واجب صناعة الحدث، لا مجرد تلقي تبعات وارتدادات أحداث تقع وتحصل على حساب وجوده ومصيره.

اتفاق أوسلو مات.. ونحن في السباق الذي يحدد الفائز في إنتاج شكل وآلية الصراع في المرحلة القادمة.