هل ينهي انفصال جنوب السودان عن شماله المأساة السودانية المتواصلة والمتراكمة نتائجها منذ سنوات طويلة، والتي جعلت تجاوز آثارها الانسانية والاجتماعية والثقافية تحمل صفة الصعوبة البالغة، وعلى الرغم من اعلان قيام دولة جنوب السودان مازالت الاسئلة المتلاحقة تطرح حول مستقبل ومصير كلا الشطرين الشمالي والجنوبي على حد سواء. وما اذا كان هذا الانشطار سيضع حداً نهائياً للحروب الطاحنة التي انهكت الجميع؟ وللاجابة على هذه الاسئلة لا بد من الاطلالة ولو بشكل موجز على ابرز المحطات السودانية منذ الاستقلال وحتى الانفصال.

 

ازمة السودان من الاحتلال حتى الاستقلال

تعود بذور الازمة السودانية الى مرحلة ما قبل اعلان الاستقلال وهي بذور زرعتها السلطات البريطانية المستعمِرة، التي قاومها الشعب السوداني انذاك بشطريه بصلابة وقوة من خلال قيامه بالعديد من الثورات والانتفاضات المسلحة، حتى تم اجلاء الاحتلال وقواته في العام 1956.  (يومها وقف ما كان يعرف بالمندوب السامي البريطاني مخاطباً جنوده المنسحبين على متن بارجة حربية ليقول: "لقد تركنا وراءنا ما هو اخطر واكثر فتكاً بالشعب السوداني من بقاء قواتنا واحتلالنا". وهذا الاستقلال الذي جاء بعد حوالي 4 سنوات من انتصار ثورة الضباط الاحرار بقيادة جمال عبد الناصر في العام 1952 في الاقليم المصري) التي ورثت وضعاً ملتبساً ومعقداً في نفس الوقت مع القطر السوداني الذي كان يتبع ادارياً الحكمَ في مصر منذ ايام حكم السلطنة العثمانية وبعدها الخديوية.. التي كانت تتعايش مع ما كان يسمى بالمناطق المقفلة في الجنوب، والتي خلَّفها الاستعمار البريطاني. وهي التي اعتُبرت القنبلة الموقوتة التي تحدث عنها المندوب السامي البريطاني لحظة جلاء قواته.

 

ومع العام 1956، ومع استقلال السودان رسمياً وتشكيل اول حكومة وطنية وأول رئيس للسودان كان اسماعيل الختمي، والذي كان مجيئه نتيجة التحالف بين الختميين والمهديين الذين احتفظوا بدورهم بمنصب رئاسة الحكومة، لتتوالى بعدها الانقلابات العسكرية التي كانت تحدث نتيجة للحروب مع الجنوب اذ كانت البداية مع الرئيس ابراهيم عبود في العام 1958، الذي شهد عهُده تمرُّدَ الجنوب نتيجة لرفضهم سياسته وكان تمردهم هذه المرة عسكرياً ومباشراً ضد حكومة الشمال وهي الحكومة المركزية. وفي العام 1964 جرت الانتخابات العامة وبمشاركة الجنوب التي اسفرت عن وصول حزب الامة والرئيس محمد أحمد محجوب ذي النزعة اليسارية، وهذا ماكان يعني وقتها التحالف ما بين اليسار وحزب الامة الذي كان يعتبر نفسه حزبا اسلاميا متنورا، واستمرت هذه الحكومة حتى عودة العسكر من جديد الى الحكم التي قادت جعفر النميري في العام 1969، وكان السبب حروب الجنوب، (وفي هذه الفترة حصلت اول محاورة مع الجنوب، وتم توقيع اتفاق اديس ابابا الذي اعلن فيه تقسيم الجنوب الى ثلاث ولايات، وتعيين الجنرال جون غارانغ قائداً عسكرياً للقسم الجنوبي..) الا ان هذا الاتفاق لم يدم طويلاً نتيجة لفشل سياسة العسكر المصحوب بالفشل الاقتصادي، والذي سرعان ما عاد الجنوب الى اعلان التمرد العسكري من جديد، ولكن هذه المرة بقيادة القائد العسكري المعين من الشمال الجنرال غارانغ.

 

وفي العام 1985 واثر انقلاب قادة الجنرال سوار الذهب تحت شعار اعادة الحكم الى المدنيين، والذي كان صادقاً في وعده الذي اطلقه باعادة المدنيين الى السلطة خلال ستة اشهر، والذي على اثره عاد الصادق المهدي الى السلطة الذي كان نصيبه الفشل في سياسته مع الجنوب، ليعود بعدها تحالف عسكري – مدني جديد يقوده هذه المرة الجنرال عمر البشير متحالفاً مع حسن الترابي زعيم جبهة الانقاذ الاسلامي. تحت عنوان التصدي بالقوة لتمرد الجنوب، والذي ترافق مع تأزم التواصل السياسي الذي هدد حتى التحالف المذكور نتيجة لممارسات حسن الترابي داخل الحكومة التي ابعدت اصحاب القدرات والكفاءات، وتعيين رجاله الموالين له على قاعدة السمع والطاعة.

وفي هذه الظروف تصاعدت الصراعات العسكرية مع الحركة الشعبية حتى العام 1996 (وفيه توصل الطرفان الى اتفاق ابوجا الذي سمح للجنوبيين بالحكم المدني وهو اشبه بالحكم الذاتي، وفي العام 2000 اعيد انتخاب عمر حسن البشير رئيسا للسودان والذي ترافق مع بداية تصدير البترول من الجنوب) وهو ما دفع بالحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان بزعامة الجنرال غارانغ الى المطالبة بايجاد صيغة جديدة تقوم على اساس تقاسم السلطة والثروة.

 

النفط يدخل عنصراً جديداً في الصراع

مع بداية العام 2000 ومع بداية انتاج النفط من الجنوب وتصديره عبر مرافئ الشمال تحولت وجهة الازمة السودانية الى جهات اخرى ومختلفة اذ دخلت عائدات النفط المُصدَّر مادة جديدة للنزاعات والصراعات ما بين الشمال والجنوب. ولذلك استمرت المعارك الطاحنة بين شطري السودان على الرغم من العديد من المحاولات والمفاوضات والتي استمرت حتى العام 2005 عندما توصل الطرفان الى عقد اتفاق نيفاشا والذي نص على  مهلة خمس سنوات يصار بعدها الى اجراء استفتاء للخيار ما بين الوحدة او الانفصال، والذي على ما يبدو كانت نتيجتة معروفة سلفاً خصوصاً وان واقع الانفصال كان واقعاً على الارض وهذا ما تُرجم عبر الاستفتاء الذي ادى الى اعلان انفصال الجنوب عن الشمال واعلان دولة جنوب السودان.

 

المعركة القادمة شمالية – جنوبية – وجنوبية جنوبية.

ومع الانفصال بدأت الانعكاسات السلبية تتوالى على كل من شطري السودان، ففي الجنوب الذي يتشكل من مجموعة قبائل اكبرها قبيلة الدنكا والنوير التي تقع حقول النفط ضمن اراضيها. وقبيلة الشلك وعشرات القبائل الاخرى ابرزها قبائل باريا – ساندي – المنداوي. التي لم يجمع بينها ولا مرة في تاريخها نظام سياسي مركزي، والتي من المتوقع ان تشهد صراعاً دموياً فيما بينها من جهة، ومن جهة ثانية مع السلطة الجنوبية الوليدة التي يقودها الجنرال سليفاكير خليفة الجنرال جون غارانغ الذي ذهب ضحية صراعات جنوبية – جنوبية قبل اكثر من اربع سنوات. الاَّ ان الخطر الاكبر الذي يتهدد الجنوب هو اندلاع القتال في ولاية اعالي النيل والتي يتواجد فيها قبيلة الشُلق الذين يتخذون موقفاً معادياً من عاصمة الجنوب جوبا، ويحملون السلاح ضدها منذ امد بعيد.

 

اما من جهة الخلافات مع الشمال فهي في اغلبها عوامل اقتصادية (اذ ان الحكومة الشمالية خسرت حوالي 80% من عائدات البترول وهو ما يعني خسارتها لحوالي 40% من قيمة الموازنة العامة للبلاد، وهو ما دفع بالشمال الى اصدار عملة جديدة بحوالي 6 مليارات جنيه وهي المرة الثانية في عهد حكومة البشير، والثامنة منذ الاستقلال تحت ذريعة حماية اقتصاد السودان.) وبدوره اصدر الجنوب عملة جديدة الا انه يطالب الشمال بسحب ما يقارب 700 مليون جنيه قديم من الجنوب واستبدالها بالدولار الاميركي باعتبارها حقاً لحكومة الجنوب، وهذه الازمة تضاف الى الازمة الاساسية الدائرة حول تصدير النفط الجنوبي الذي لا يجد سبيلاً الا عبر انابيب تعود ملكيتها لحكومة الشمال، وعبر موانئها والذي تصر الحكومة الشمالية على تحصيل رسوم تبلغ 23 دولارا اميركيا عن كل برميل نفط ينتج في الجنوب. وهو ما رفضه الرئيس سليفاكير الذي يهدد بعدم استخدام البنية التحتية الشمالية لنقل البترول وهذا الرقم يعتبره متابعون للشأن السوداني رقماً مبالغاً فيه، خصوصاً وان الرسوم المستوفاة عن البترول التشادي المصدر عبر نفس المرافئ تبلغ 14 سنتاً للبرميل. (وهذا يعني ان حكومة السودان في الشمال تريد اجبار حكومة الجنوب الى الدخول معها بمفاوضات حول هذه النقطة الهامة،) خصوصاً وان الاتفاق المبدئي الذي رعته كل من اليابان والصين المستفيدتين من هذا البترول وهما من انشأ المنشآت النفطية وانابيبها والتي دفعت تكاليفها من اموال حكومة الشمال. 

 

وعلى ضوء ما تقدم يبدو ان السودان وبشطريه، وعلى الرغم من انفصالهما الا انهما سيبقيان مشتركين في قضايا وهموم  واشكاليات لن يستيطع الجاران حلها لوحدهما.