الجميع يتوقّف أمام هذا الحدث المميَّز في مضمونه، وفي توقيته، وفي أهدافه، وفي الجهة المنفِّذة التي أثبتت أنها تمتلك قدرات على جانب كبير من الدقة في التخطيط، والتنفيذ، وفي التمويه والتضليل، وبالتالي حتى الآن لم تكشِف هذه الجهة عن نفسها حتى لا تعطي للطرف الآخر الفرصة لوضعها تحت المجهر والمراقبة الدقيقة لتحركاتها.

من حيثُ المبدأ فإن الاحتلال الإسرائيلي هو الذي يتحمَّل المسؤولية الكاملة عمَّا يجري لأن هذه العملية العسكرية التي انتهت الى اختطاف ثلاثة جنود صهاينة، وإخفائهم ثم نقلهم إلى مكان آمن بعيدٍ عن الأنظار بحيث لم يتمكّن العدو حتى الآن إلى التعرُّف عن مكان وجودهم لأنه لم يُعلِن عن أية معلومات حول ما توصَّل إليه رغم عمليات التفتيش الواسعة والهمجية والأساليب الوحشية وإيجاد حالة من الرعب لدى العائلات والأطفال الذين دخل الجنود إلى بيوتهم وغرف نومهم وكلابُهم المدرَّبة معهم.

لا شكّ أنَّ ما قام به منفذو العملية بغض النظر عن هويتهم التنظيمية، أو جنسيتهم، وبغض النظر عن الأهداف الكامنة وراء العملية المتقَنة إلاّ أنك كفلسطيني لا تستطيع إلاّ أن تُحَيي وتحترم العملية من حيث المبدأ أولاً لأنها استهدفت ثلاثة جنود، وفي أراضي الضفة الغربية المحتلة العام 1967، وهي إحدى المستوطنات التي تمارِس الإجرام والعدوان على شعبنا يومياً. وثانياً للسياسة العنصرية، والقهرية، والقتل المتعمَّد الذي يصبُّ في سياسة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، والسياسة الحاقدة والقاتلة التي يمارسها الاحتلال ضد الأسرى الفلسطينيين ومنهم الأطفال والنساء، والمرضى، والمعتقلون القُدامى، وبالتالي استهداف حياة وإرادة وحقوق الأسرى الاداريين وغير الاداريين، وحرمانهم حتى من الملح الذي يزيد من قدرتهم على مواصلة الاضراب عن الطعام لإجبار العدو على الاستجابة للحقوق المشروعة التي جاءت في اتفاقات جنيف المتعلِّقة بالأسرى وبالشعوب الواقعة تحت الاحتلال. أي أنّ سلوك الاحتلال القمعي والعنصري والتدميري تجاه المجتمع الفلسطيني، والأراضي الفلسطينية، والمقدسات الفلسطينية، والأسرى الفلسطينيين هو الذي يدفع أية جهة أن تفكر بتنفيذ مثل هذه العمليات التي تأتي رداً موجعاً على سياسات الكيان الاسرائيلي، وعلى الاحتلال أن يتحمَّل وحده نتائج مثل هذه العمليات العسكرية.

السلطة الفلسطينية كانت واضحة في ردها بأن المنطقة (ج) أو (سي) هي تحت السيطرة الأمنية الكاملة الاسرائيلية، وفي هذه المناطق تقع الكثير من المستوطنات ومن معسكرات التدريب، والقواعد العسكرية، إذاً المفترض علمياً أن الاحتلال يجب أن يعرف كلَّ صغيرة وكبيرة في هذه المنطقة، وليس من حقه إلقاء المسؤولية على السلطة. السلطة معنية بمعرفة ما يدور في مناطقها، والتدقيق جيداً بما يجري لأنها هي الجهة المعنية بأمن المجتمع الفلسطيني، وهذا ما يعرفه الجميع بما في ذلك الجهة الخاطفة. وفي الوقت الذي تقوم به سلطات الاحتلال بالمداهمات والاعتقالات، والاغتيالات، وتدفيع الثمن للشعب الفلسطيني في مختلَف المدن والقرى، والمخيمات، والأحياء، تقوم أيضاً بشن حملة إعلامية وسياسية تستهدف القيادة الفلسطينية، لكن القيادة الفلسطينية واضحة في ردها على الإدعاءات الاسرائيلية، وإبلاغ المجتمع الدولي بما جرى وما يجري لأن المجتمع الفلسطيني ليس مجتمعاً إرهابياً وإنما هو ضحية الارهاب الصهيوني، وعلى إسرائيل أن تتحمَّل مسؤولية إرهابِها وقمعها وعدوانها. والسلطة ليست معنية أن تتحمّل عواقب سياسات حكومة نتنياهو المتطرِّفة.

وحتى تكتمل الصورة لا بد من وضع مختلف التوقعات والاحتمالات والخلفيات أمامنا، وهذا ما يتطلّبه أي عمل سياسي، لأن السياسة آفاق. والاسئلة التي سنوردها مشروعة خاصة أن الجهة المنفِّذة غير معروفة حتى الآن بهويتها السياسية:

 

أولاً: لقد جاءت العملية العسكرية في وقت تتصاعد فيه قضية الأسرى الاداريين المضربين عن الطعام منذ ما يزيد على خمسة وخمسين يوماً فهل جاءت انتقاماً لهم، وعاملاً ضاغطاً للاستجابة لمطالبهم، أو في إطار فرض عملية تبادل للأسرى جديدة، وإلغاء سياسة السجن الاداري المرفوضة قانونياً، والتي لا تطبَّق إلاّ على شعبنا الفلسطيني فقط دون بقية العالم؟ وبالتالي هل تستطيع حكومة نتنياهو المتطرفة أشد التطرف أن تخضع للجهة الخاطفة، وأن تستجيب لطلباتها مقابل الإفراج عن الجنود الثلاثة؟! وإلى أن تعلن الجهة الخاطفة عن نفسها، وعن مشروعها، وعن خطتها، وعن الجهة الوسيطة التي سيتم تكليفها القيام بدور الاتصال مع الجانب الاسرائيلي، وهل هي جهة عربية أم أجنبية؟ وماذا ستفعل سُلطات الاحتلال خاصة إذا ظلَّ الغموض يلفُّ الموقف المتعلِّق بالحدث لشهور؟؟؟

 

ثانيًا: يجب أن لا ننسى بأن نتنياهو منذ فترة وهو يعيش عُزلة سياسية خانقة خاصة بعد نجاح "م.ت.ف" بالحصول على دولة غير عضو مكتمل العضوية في الأمم المتحدة، وأنها دولة تحت الاحتلال على حدود العام 1967. ثم إنضمام فلسطين إلى الهيئات الدولية والبدء بدراسة كيفية معاقبة قادة الاحتلال، ثم اقتناع العالم بأن الكيان الاسرائيلي هو الذي لا يريد المفاوضات، وبالتالي قيام الاتحاد الاوروبي بمقاطعة منتجات المستوطنات الاسرائيلية. أمام هذه الأزمة حيث أن العالم بأسره يؤيِّد المصالحة والحكومة الفلسطينية الجديدة، هل سينتظر نتنياهو ردَّ الجهة الخاطفة، والاستماع إلى الجهة الوسيطة، والاستجابة للطلبات التصعيدية المتوقَّعة، والإنحناء أمام قضية الأسرى، وأمام حقوق الشعب الفلسطيني، والخروج من دائرة الغطرسة والحقد، والعنصرية، وسفك الدماء والعدوان، ولو مؤقتاً للمقارنة والبحث عن المنطق والحقيقة ووضع حدٍ لحالة التدهور؟ أم أنه سيصمُّ أذنيه عن سماع صوت العقل والبقاء في مستنقع العنف والكراهية والإبادة؟

 

ثالثاً: وبمعنى أوضح، هل سيتعاطى نتنياهو مع التطور الأخير الذي كشف هشاشة الأمن الإسرائيلي بطريقة مختلفة كلياً. أي هل سيعتبر هذه العملية العسكرية الأخيرة فرصة للاستناد إليها في قلب الطاولة، وخلط الأوراق، وحسم الخيارات الاسرائيلية؟. أي هل سيقوم بردة فعل أعنف وأقسى مما يجري حالياً في الضفة وعلى قطاع غزة فيعمد إلى شنِّ هجوم واسع مستهدفاً المناطق "أ" و "ب"، مدمِّراً البنية التحتية للسُلطة الوطنية بما في ذلك المؤسسات التي تمَّت إقامتها، والبنية الاقتصادية الضعيفة أصلاً، وشنِّ حملات اعتقال لتطال المسؤولين والقادة ليس من حماس فقط وإنما من مختلف الفصائل، وشلِّ الجامعات، والحياة الاجتماعية، وتشديد القبضة على المعابر، وتنشيط الاستيطان، وبناء المزيد من المعتقلات والزنازين، ويكون هذا شبيهاً بما جرى العام 2002، وبذلك يفرض نتنياهو حقائق جديدة على أرض تتناسب مع مخططاته الـمُتَّفَق عليها في المطبخ السياسي للحكومة الاسرائيلية.

 

رابعًا: ما ذكرناه في الفقرة السابقة هو مرتبط مع الرؤية الاسرائيلية للحل النهائي في الأراضي المحتلة العام 1967. فالحكومة الاسرائيلية بشكل عام أكّدت دائماً أنها لا تريد حلَّ الدولتين، ولا تريد أيضاً الدولة الواحدة التي يعيش فيها الجميع، وهي بالمقابل تطلب من الجانب الفلسطيني أن يعترف بإسرائيل دولة يهودية، وهذا ما رفضته القيادة الفلسطينية بشكل مُطلَق. والذي سيقوم به نتنياهو عملياً هو الانسحاب الأُحادي من الضفة الغربية، وتكثيف الاستيطان، والإبقاء على كانتونات متناثرة للفلسطينيين، والسيطرة على الأغوار، والقدس، والمعابر، والسيادة الكاملة على الأجواء والمياه والدخول والخروج، وهذا ما يخطط له نتنياهو. فهل سيستثمر التطورات الأخيرة لتكريس مشروعه الـمُعادي لحقوق الشعب الفلسطيني، ولتدمير كل ما تمّ بناؤه من قبل الفلسطينيين على الاراضي الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو؟ وهل سيتحقق حلم نتنياهو وقبله شارون بالتصفية النهائية لاتفاق أوسلو لأنه بنظرهما خطأ تاريخي إرتكبه إسحق رابين وهو الذي تمّ اغتياله لأنه وقَّع على هذا الاتفاق.

 

خامسًا: أمام مثل هذه التطورات فيما لو حدثت كحالة افتراضية متوقّعة بالتأكيد السُلطة الوطنية ستأخذ خطوة حاسمة رداً على مثل هذا العدوان وتطلب من الاحتلال الاسرائيلي تحمُّل مسؤولياته كاملة تجاه الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال، أي يجب على نتنياهو أن يتحمَّل تكلفة الاحتلال، وما ستؤول إليه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، ولن يكون مُستغرَباً في مثل هذه الحالة أن تولد الانتفاضة الثالثة بزخم شديد، وأبعاد وآفاق جديدة.