قطاعات واسعة من الجماهير العربية تتعامل مع السياسة على طريقة جمهور فرق كرة القدم، والولاء الأعمى للفريق بدون أي نقاش أو محاسبة ونقد، أو بمنطق التاريخ الموروث، أي التصرف بمنطق العصبية القبلية، والولاء الأعمى للقبيلة وشيخها. الذي يتم التعامل معه وكأنه معصوم عن الخطأ، والأخطر أن يترك هذا الجمهور نفسه وعقله رهينة لقناة تلفزيونية إخبارية ويتعامل معها وكأنها قناة القبيلة، وأنها المصدر الوحيد للحقيقة، والمعبر عن خلاجات دواخله "الثورية"، والمشكلة في هذا الجمهور "الكروي" أنها ومع مضي الوقت والإدمان على المصدر الذي يغذيه بالمعلومات والأوهام، يبدأ بتصنيف البشر ومدى "ثوريتهم" أو وطنيتهم وقوميتهم من عدمها. انطلاقًا من أنه أو أنها من مشاهدي هذه القناة أو عدمه، والأكثر خطرًا على عقلهم الجمعي المغلق هو الشخص التعددي الذي يشاهد ويقرأ كل الاتجاهات.

هذا القطاع يميل في الغالب لفكرة "المنقذ" القادم من الخارج، وهذا الميل ناجم عن العجز وخيبات الأمل المتراكمة، وهي الحالة، التي تقوم أطراف إقليمية ودولية عديدة باستخدام هذا القطاع الجماهيري عبر الدعاية والشعارات ومخاطبة الغرائز، والتحكم به وعبر الزمن تحويله إلى جمهور قبلي يغيب عقله تمامًا، ويمكن لمس ذلك بسهولة في زمن أدوات التواصل الاجتماعي، حيث يلاحظ المرء تداول البوستات التي تغذي الوهم أكثر مما تغذي العقل. انتظار لنجدة الطرف الخارجي، حتى لو كان هذا الطرف هو من يغذي هذه الأوهام، ومع ذلك لا يمل هذا القطاع من المراهنات مرة تلو الأخرى كما وكأنه جمهور فريق كرة قدم.

ربما يعود السبب إلى أن الجمهور العربي محروم من ممارسة الحياة الديموقراطية، وإما لجماعات الإسلام السياسي، التي تخطف العقل وتسيطر عليه عبر مقاولات دينية انتقائية، يتم التعامل معها كما وكأنها هي الدين بذاته، لكنها بالأساس مشروع لتعميم الجهل. كما لم تعتد الجماهير العربية على ثقافة النقد والاعتراف بالخطأ، أو حتى ثقافة إجراء تقييم لحالات الإخفاق وحتى النصر، من هنا من السهل تحويل هذه الجماهير إلى حالة قبلية، تلدغ من الجحر ذاته مرات ومرات دون أن تتعظ.

ولكي تكون الصورة أشمل، فإنه يجب الاعتراف أن المشاريع القومية العربية، كانت هي الأخرى مشاريع غير حقيقية، وهي أقرب لمنطق القبيلة وشيخ القبيلة، وهي المشاريع التي انتهت بكوارث وهزائم كبرى، على شاكلة هزيمة حرب العام 1967، أو العام 1991، والتي استباحت بعدها الولايات المتحدة بالكامل. لذلك وبعد سلسلة خيبات الأمل بالمشاريع القومية، وفي ظل غياب المنهج النقدي من السهل أن تتحكم قناة تلفزيونية التي تستغل خيبات الأمل وتقوم بتغذية الوهم.

قد يقال هنا إن كافة الشعوب تتصرف كذلك عندما تشعر بالهزيمة، هذا صحيح لذلك وعندما يحدث شيء من هذا النوع يتم مناقشة أزمة الوعي التي يمر بها هذا الشعب أو ذاك، وفي الدول الديمقراطية يتم في الغالب مواجهة الأزمة بمزيد من النقاش وإتاحة التعددية الفكرية والسياسة. المقصود هنا أن نعترف أولاً أن لدينا أزمة وعي عميقة، وأن نفكر بكيفية الخروج منها، وليس بانتظار النجدة من خارجنا.

منذ السابع من أكتوبر، هناك من أضفى على عملية حماس هذه صفة القدسية، من الممنوع حتى طرح بعض الأسئلة حولها، وإذا كان من قام بها يدرك أنها  استنهضت الشيطان. ثم يقوم البعض بتحريم حتى التفكير بإجراء تقييم لما جرى للشعب الفلسطيني وقضيته، والثمن الباهض الذي دفعه، لنكتشف بعد عام من حرب الإبادة أن من رجونا عونهم هم بحاحة لعون، أو أن لهم حسابات مختلفة عن حساباتنا. وأن ما جرى ويجري مع الشعب الفلسطيني هو أشبه بمن ينتظر غودو.

أزمة الوعي تتعلق برفض التعددية الفكرية برفض فكرة أن يكون للفرد عقل مستقل ينتج رأيًا خاصًا، أو وجهة نظر مختلفة، جمهور القناة التلفزيونية لا يرفض بحسب وجهة النظر الأخرى أو الرأي الآخر والعقل المستقل، بل يمارس إرهابًا فكريًا، ويعطي لنفسه الحق بتصنيف البشر من منطق أن من يخالفني الرأي فهو ضدي وضد المشروع "التحرري".

في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كانت الحركة الشيوعية العالمية تناقش بخجل ما سمَّته في حينه أخطاء ستالين، وانقسم الشيوعيون إلى من هو إستاليني وغير إستاليني، واليوم وبعد أن انهارت كل التجربة الشيوعية، أدرك الشيوعيون أن الستالينية كانت دكتاتورية الفرد، وليست دكتاتورية البرولتياريا. وانهارت التجربة الاشتراكية كلها، ويتمنى من بقي من الشيوعيين الحقيقيين لو كان النقاش الداخلي أكثر جرأة وكان هامش الحرية أوسع داخل الحزب، والأمر ذاته مع المشاريع القومية العربية.

أزمة الوعي تواجه بالمعرفة والحصول على المعلومة من مصادر عدة وعبر الانفتاح على كل الأفكار، وليس رفضها، عبر الحوار واحترام الرأي الآخر. لعل هذه المحنة تمر دون أن تحقق إسرائيل كل أهدافها الشيطانية ضد الشعب الفلسطيني، وبعدها لابد من نقاش واسع للاستفادة من دروس وعبر مما جرى.