ترفع صروح الأمم والشعوب على العلم والثقافة الإنسانية المتحررة، والخالية من الرواسب المؤذية المعطلة للنمو والتقدم والسمو والرقي بأشكالها كافة، لكن كيف لهذه الأمم والشعوب بلوغ العلم والمعرفة والثقافة بدون عقل إنساني رائد، مبدع، وقائد، كشروط لابد من منها لدخول نادي الحضارات الإنسانية المتعاقبة والمتكاملة والمكملة لمسيرة الإنسان لبلوغ محطة السلام مع الذات والآخر حتى لو كانت من غير جنسه كالمخلوقات الطبيعية في الأرض، ومكونات الكون المعروفة، أو الخاضعة لمنظورعقله اللامتناهي.

وتبدأ صروح الأمم والشعوب بالتشقق، وتودي بها الانشقاقات الكبرى إلى الانهيارات العظيمة الفظيعة، عندما تفقد توازنها، بسبب عقول مستبدين، ظالمين سيطروا على أدمغة مجتمعاتها بالخرافات والأساطير المنسوجة من خيوط مخيلاتهم الشيطانية، ثم يحملونها أثقالاً فوق قدراتها، فتهوي لأن عظام عمودها الفقري، وعماده العقل قد بات هشًا، فارغًا، كالقصب لا يصلح لأكثر من التصفير والتزمير المتزامن مع قرع الطبول، وأصوات قرقعة السلاح، فيما قرقعة طناجر العائلات الفقيرة والمسكينة في البلاد تبلغ أسماع أهل الأحاسيس والمشاعر البعيدين، وهنا يقفز السؤال: هل سيخشى الذين يحاصرون بالبلاد قرقعة السلاح، أم سيطمئنون إلى قرقعة الطناجر الفارغة، وصرخات آلام المرضى، وفوضى الأميين، وهزال العاطلين عن العمل، وتحول المدارس والجامعات ودور العبادة إلى مراكز عصبوية فئوية، لا علم يبحث في فصولها، ولا روح جديدة معاصرة تنفخ في نفوس وعقول المتعبدين، إذ ليس بمقدورهم إلا التسليم بما يسمعون ويشاهدون، دون تكليف أنفسهم عناء التفكير، وأنى لهم فعل ذلك، فيما عقولهم قد صادرتها وجماعات وفئات، بسلاح الإرهاب، والوعد بحكم المؤبد في الجحيم، مالم يطيعوا ويسلموا بغير تفكير ونقاش، ومالم يتخلوا عن عقولهم وكل ما يتعلق بها، كرهًا أو طواعية للمدعي أنه سوط السماء على الأرض.

ترقى الشعوب وتحمي نفسها من الإندثار عندما تمنح عقلاءها الفضاء الآمن للإبداع، وعندما تقرأ رؤاهم وأعمالهم بنصوصها الحرفية، وحيثياتها المادية الملموسة، ولا تسمح لشيطان الأنا الشخصية أو الفئوية العصبوية للتسلل عبر ثنايا النوايا، فهذه – إن وجدت - يستحيل رؤيتها، ويستحيل إخفاؤها إلى الأبد أيضًا. فهذه العلة إذا استحكمت وانتشرت، فإنها كالفايروس الذي يصيب الناس بالشلل العقلي، تدمر الذات، ثم سرعان ما تبدأ بالبطش في مقومات العقل الجمعي للأمة أو الشعب، أي مقومات الثقافة، ثم تنطلق لتكسير جدران الحماية والأمن الاجتماعي والاقتصادي، فتبلغ السياسي الذي سينهار تلقائيًا، فالصروح الحضارية لا تبنى على رمال متحركة، ولا على أرضية تنجرف عند أول فيضان، أو تنفصل عن بعضها عند أول هزة، ولا تبنى على نظريات غابرة، لم تعد صالحة لساعة الدنيا الحاضرة وتلك الكامنة وراء الأفق المرئي على الأقل، وإنما على قواعد العلم، المدفوع بطاقة العقل الإنساني والإيمان بقدرة مرجعه الأزلي على حفظ نتاجه، وجعله موروثًا إنسانيًا كالحقيقة، لا يمكن لأحد احتكارها أو حصرها. لذلك لا صحة لمقولة صراع الحضارات، وصراع العقول، وصراع الأدمغة، لأن هذه في الأصل صراعات سلاطين تحت هذه الشعارات، لأن الحضارات والعقول والأدمغة ستبقى في مسار التكاملية مادامت ذات سمات إنسانية خالصة، وهنا في هذه السمات لا يجوز أبدًا فصل القيمي والأخلاقي والثقافي الإنساني عن العلمي العقلاني، لكن كل الأحداث التي تحياها الشعوب ليست أكثر من تجارب، لا تستطيع سوى  شعوب تتخذ العقل والعلم لتبصر المستقبل واستخلاص أحكام الرؤى  لتجسيده حضاريًا على الأرض لتشرق عليه الشمس بسلام.