أيام كانت الجامعات موقدة لإنضاج الأفكار، وتأطير الوعي وتثميره، وكتاباً مفتوحاً يقرأ فيه كل منا بما يرى، وبما يعيش، وبما يحلم، سيذهب إلياس خوري إلى الأردن ملتحقاً بالعمل الفدائي، ومنادياً بالحرية لفلسطين، وصارخاً، كفى عذاباً لأحفاد المسيح عليه السلام، ولأهل الأرض، وكفى تشريداً ذميماً هنا وهناك، وكفى نفاقاً ومسايرة وتماهياً ورعاية للمشروع الصهيوني في البلاد الفلسطينية التي صبغت أخبارها وأحداثها وحادثاتها بالدم، والظلم، والقهر، واللاأخلاق، واللامبالاة، والكذب الأسود الثقيل.

كان إلياس خوري واحدًا من بين رفاق له، اعتنقوا فكرة الحرية والتحرر، فمشوا داخل أروقة الجامعة منادين بالعدالة للفلسطينيين الذين ظلمتهم السياسات الاستعمارية الغربية، وحالات الضعف التي عاشتها وبدت عليها البلاد العربية، لقد قرأ الياس خوري ورفاقه فصولاً من سير البلدان التي نادت بالحرية والتحرر، مثل الهند، وجنوب أفريقيا، ودول أميركا اللاتينية، وروسيا القيصرية، وتوقف، مع رفاقه، عند الخلاصات والدروس المجتباة مما حدث في كوبا، وفيتنام، وما آلت إليه الحرب العالمية الثانية من رسم خرائط جديدة، متعددة الغايات والأهداف، مثلما توقف إلياس خوري عند سير حيوات من نذروا أنفسهم للحديث الطويل عن الحرية والوجدانية ومفهوم الدولة والوطن والمواطنة أمثال: ماركس، وجان بول سارتر، وكامو، وفرانز فانون، وغرامشي، وتشومسكي، وكارل بوبر.

كل هذا، وفيه الكثير من الموحيات، أثر في إلياس خوري وبعض رفاقه الذين غادروا الجامعة، ومدينة بيروت، ومضوا إلى القواعد الفدائية، ليعيشوا تجربة جديدة فريدة فيها الكثير من الغرابة، والدهشة، والنبل، والصدق الجلي الذي يمشي بعزومه مع إشراقة كل صباح نحو تحقيق الهدف المنشود: استعادة فلسطين محررة من براثن الظلموت الذي وقع على أرضها وشعبها معاً.

صحيح أنّ المدة الزمنية التي عاشها إلياس خوري، مع بعض رفاقه اللبنانيين، في المواقع الفدائية الأمامية قرب نهر الأردن، كانت قصيرة، ولكنها كانت مؤثرة جداً، ومشيرةً له للوجهة التي سيسير وفقها طوال حياته.

عاد إلياس خوري إلى الجامعة لاستكمال دراسة التاريخ، ومضى إلى فرنسا ليدرس التاريخ بمعناه الاجتماعي، السوسيولوجي، وليأخذ شهادة الدكتوراة، وليدرس في الجامعات اللبنانية، والفرنسية، والألمانية، والأميركية، وليعمل في الصحافة ومراكز الأبحاث، والمؤسسات الدارسة للحال الفلسطينية، وعلى غير مستوى، وليكتب القصص والروايات والمسرحيات والمقالات.. وهو يفكر بالحال الفلسطينية، أما حلمه فتمثل في أن يكتب رواية تليق بمسيرة نضال الشعب الفلسطيني الذي عاش تجاربه طوال نصف قرن وأزيد، وقد حقق ذلك حين كتب روايته "باب الشمس" المنصرفة تماماً للحديث عن فلسطين وأهلها، وفلسطين ومأساتها، وفلسطين وعمرانها، وفلسطين وأحلامها.

عاش إلياس خوري "1948-2024" قرب أكثر من موقدة فلسطينية وهاجة النار، كثيرة الحرارة، منذورة للإبداع والاشتقاق، جلية بعزومها وقناعاتها، ولعل من أبرزها الصحافة الفلسطينية، ومراكز الأبحاث، فقد عاشها إلياس خوري بكل ما فيها من نبل وأخلاق ووطنية، وعانق مشاعر الأدباء والشعراء والباحثين الذين التفوا حول القضايا الفلسطينية، وكان من أبداهم وأقربهم إليه محمود درويش؛ لقد شكّل قرب إلياس خوري من محمود درويش الروح الموجهة له في السلوك والكتابة، والقناعة المطلقة بأنّ المطالبة بالعدالة وإنصاف الشعب الفلسطيني، واستعادة حقوقه كاملة. هي الحلم الأسمى، وهي النجمة الملكية الراهجة التي تزين صدور المناضلين المنادين بالحرية لفلسطين الضحية، محمود درويش كان بالنسبة لـ إلياس خوري موقدة إبداع لانضاج نصوصه الثمينة، لأنّ الياس عده مرآة لا مثيل لها في حياته، وموقدة لتصليب خطاه، وأفكاره، ورؤاه في آن.

إلياس خوري، وبسبب الأحوال والظروف التي عاشها وسط الواقع اللبناني من جهة، والواقع الفلسطيني من جهة ثانية، أوقف تجربته الأدبية كلها للحديث عن الحالين اللبنانية والفلسطينية، ولا سيما وقوفه عند الارتجافتين الكبيرتين، الحرب الأهلية اللبنانية وآثارها، وما عمّقته عن مخاوف تجاه بنية الوطن اللبناني، والعودة إلى التعاريف الأولى للمواطنة والوطن، والارتجافة الثانية كانت الخروج الفلسطيني من لبنان عام 1982. لذلك انصرفت كتابة إلياس خوري الإبداعية كلها لتصب في هذين المسارين، عدا استثناءات قليلة، وكل مقالاته ومشاركاته في التفاعل الثقافي، مضت لتشرح ما حدث، وكيف حدث، ولماذا؟

أعرف أنّ رحيل إلياس خوري غصّة، وألم، وفقد على غاية من الوجع،  ولكن العزاء أنه كتب ما كتب، وهو كثير وغني، وتفاعل ثقافياً وفكرياً بأكثر من طاقته الهميمة التي عرفناها. فكان الكائن الرائي، والعقل المستنير، والجهة التي عمقت معنى العدالة وحضورها في مواجهة الظلم أيًا كانت مفاعيله، وأعرف أيضاً أنه من المبكر جداً أن نحقب لمسيرة أدبية مهمة جداً، وغنية جداً، ولنشاط ثقافي موار وخلّاق ومدهش جداً، كلها وسمت حياة إلياس خوري طوال 76 سنة، والتي لم تغب خلالها فلسطين أبداً، أما العدالة التي مشى في ظلالها، فكانت رفيقته وخدينته وحلمه وسطوره المضيئات.