لا يختلف اثنان، على كون الأعباء الوطنية الفلسطينية العامة، تتطلب جهود كل الأطياف والشرائح السياسية والاجتماعية. غير أن وضع غزة، مع سيطرة "حماس" عليها بقوة الميليشيا التي انقلبت على النظام السياسي في العام 2007، يتطلب انتظار نضج الحمساويين وإقلاعهم عن معظم خطابهم الدعائي الذي لم يعد قابلاً للصرف، وانتظار وصولهم الى القناعة بلا جدوى المشروع المتخطي للجغرافيا، الذي يتخذ من قضية التمكين لجماعة "الإخوان" في المنطقة، هدفاً له، فيما يُعد حماقة ومقامرة!

 

الطرف الآخر، الفتحاوي، من الخصومة، استبعد فكرة اللجوء الى العنف أو إدخال المجتمع الغزي في الفوضى، لإسقاط حكم "حماس" وذلك لاعتبارات اجتماعية ووطنية. وكان الرهان على الزمن، وعلى حقيقة أن الفكرة تحمل بذور فشلها في داخلها؛ كفيلتان بإيصال "حماس" الى مربع الأزمة والى انسداد الأفق، وهذا ما بدت إرهاصاته ماثلة للعيان في هذه الآونة. وإن كان الزمن، وهو معقد الرهان، سيفعل شيئاً، فإنه لن يداوي سوى الاحتقان الذي أوقعته "حماس" في المشهد الفلسطيني، سياسةً واقتصاداً واجتماعاً وحتى مقاومة. وكلما مر الوقت، سيصبح وضع "حماس" أسوأ، وهنا يتعين على عقلاء الحمساويين - إن كان بينهم عقلاء - أن يتداركوا أمرهم، وأن يبدلوا لغتهم، وأن يقشطوا عنها صدأ التعبيرات الجزافية الفاقدة للدلالة، التي -مثلما أسلفنا - لم تعد قابلة للصرف!

 

فيما يتسرب الآن، من شقوق التباينات والاختلافات الحمساوية الداخلية، نستمع الى مقاربات استدراكية، تتوخى مخرجاً آمنا للحمساويين من الأزمة. ونحن لسنا ضد الخروج الآمن، لحركة كبيرة، من أزمتها، ولا نحن ضد نزول "حماس" عن الشجرة. ففي مقدورها أن تخرج وأن تنزل، على أن يُصار الى مثول جميع الآثمين، مقترفي الجرائم، أمام العدالة، لأن هذه العدالة، عند تكريسها حيال كل آثم، تصبح ضمانة الوئام الاجتماعي والتراضي في إطاره. أما حين تأتي المقاربات الحمساوية لإنهاء الوضع الشاذ، باستخدام مفردات الخصومة وأحكامها الاعتباطية، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، لأن لغة الخصومة لا تصلح للاستخدام عند المصالحة. فليس منطقياً ولا مقبولاً، عند الطرفين، أن يرى واحدهما نفسه مقاوماً وأن يرى غيره خائناً والعكس صحيح. ولا يمكن لوطني، أن يشارك في مشروع وفاق، مع طرف يعتبره خائناً، وعيب على من يرى نفسه مقاوماً أن يصالح من يراه خائناً. فالمهاترات لا تفسر الواقع ولا تكتب التاريخ ولا تصنع التحولات الكبرى في حياة الأمم!

 

أخ كريم، من الحمساويين، يقول في مقدمة مقاربة لمشروع تصالحي أرسله لي، ما ينم على أن هناك مشكلة نشأت عن وجود "فريق أوسلو" الذي - بالمعنى - اختار ترفاً وانحرافاً التخلي عن المقاومة المسلحة. هنا، ينطلق أخونا من فرضية مجتزأة وخاطئة، تُقر للمحتلين الأوغاد بمفاعيل السحر الذي يسلب القلوب والألباب. ومعروف أن الحمساويين اعتادوا دائماً في إطلالاتهم التلفزيونية، على عدم الاستناد الى أية ذاكرة تاريخية ولو كانت قريبة. فـ "أوسلو" عندهم لها مالك حصري هو فريقها، ولا نعلم أين يرى صاحبنا السلطة نفسها التي تنافس الحمساويون على الفوز بحكومتها وربحوا. هل هي خارج "أوسلو" أم داخلها؟ فعندما حاول الحمساويون استبعاد السلطة عن مظلة "أوسلو" التي هي مجرد اتفاق على مبادئ التسوية لا على تفصيلاتها؛ توصلوا الى نتيجة كاريكاتورية، وهي إدخال غزة في الحصار وفي البأساء، لكي تستجدي حقوقها المعيشية والإنسانية بموجب "اوسلو" دونما مقاومة أو فاعلية سياسية وطنية. فـ "أوسلو" لم تكن اتفاقاً مرضياً ولم تكن هناك غضاضة في معارضته. وكان للفصائل الفلسطينية تحفظاتها الكثيرة عليه، على الرغم من أن الذاكرة التاريخية تفسر لنا الأسباب الموضوعية التي دفعت "الفريق" للذهاب اليها. ففي ظروفها كانت ممراً إجبارياً، اللهم إلا إذا اختار القادة الفلسطينيون الابتعاد أكثر فأكثر في منافيهم، لممارسة الطنين من بعيد، كسباً لعواطف وإعجاب المحزونين المتألمين لما وصل اليه الحال العربي. الواقع الآن، أن "أوسلو" فشلت مثلما توقع كثيرون ومنهم كاتب هذه السطور، ونحن لم نبرم اتفاقاً بالشروط الإسرائيلية، بخاصة وأن القوى التي تحكم في تل أبيب، هي نفسها التي اعترضت على "أوسلو" نفسها ورفضتها، وباتت السلطة قائمة وإن كانت مستضعفة ومستهدفة. ولوجودها معنى سياسي ولها علاقاتها الدولية، والسجال ما زال دائراً!

 

هنا، لا يفيد الاستمرار في استخدام لغة الإنقلاب، وتصوير السلطة وكأنها تنفذ أجندة إسرائيلية، لأن لهذا المنطق أثرا واحدا، وهو تعميق الإحباط لدى المواطن الفلسطيني، وعرقلة بناء المؤسسات الديموقراطية التي ستساعدنا كثيراً وتثبت جدارتنا في الاستقلال والحرية ونيل بعض الحقوق، والاستمرار في انقسام الساحة، وإضعاف الورقة السياسية التي لا بديل قتالياً لها!

 

نعلم أن "حماس" راهنت على المشروع "الإخواني" الذي أيدته الصهيونية الأميركية سراً وعلانية. لكن هذا المشروع فشل، بمفاعيل عُسر هضم "الجماعة" للمجتمع وللوطنيات في مصر وتونس، وانكشاف مقاصد "الإخوان" ومنهج حكمهم وطبيعة تحالفاتهم. من جانبنا، نحن لسنا معنيين بالجدال حول تفاصيل هذا الفشل. نحن معنيون بأنفسنا، وبأن يعود الفلسطينيون الى مشروعهم الوطني الحصري، وأن يسهموا جميعاً في النهوض به. لذا، ينبغي الإقلاع عن قوالب الكلام الجاهزة، إن كنا نتوخى إنهاء ملف الانقسام والذهاب الى توافق وطني.

 

انتظاراً لطرح حمساوي ناضج، ستكون لنا سطور أخرى عن المزيد من قوالب الكلام هذه!