خاص مجلة القدس العدد 330 ايلول 2016
بقلم: صقر أبو فخر

في سنة 1992 قال أريئيل شارون: " لقد وضعنا لأنفسنا هدفاً محدداً هو ألا نترك حياً واحداً في القدس الشرقية بلا يهود، وهذا هو الأمر الوحيد الذي يمكنه أن يضمن مدينة موحدة تحت السيادة "الاسرائيلية". واليوم، بعد عشرين سنة على ذلك التصريح، هل تمكنت إسرائيل من إنجاز ذلك الهدف أم فشلت؟ الحقيقة أن إسرائيل، بحكوماتها المتعاقبة، لم تتمكن من تحقيق ذلك الهدف، لكنها، كما يبدو، تسير نحو تحقيقه بثبات وعناد. مع أن كلاماً كثيراً جداً قيل ويُقال في التحذير من المخاطر المحدقة بمدينة القدس وسكانها، إلا أن هناك دائماً ما يجب إثارته لشحذ الوعي وإثارة الحمية الوطنية في هذا الشأن الخطير والمصيري.
إن إسرائيل تريد، في نهاية المطاف، تحويل القدس من مدينة متعددة الديانات والثقافات إلى مدينة يهودية إلى حد بعيد. وهنا مكمن الخطر بالتحديد، إذ سيترتب على ذلك، في حال نجحت اسرائيل في تنفيذ خططها، إزالة مظاهر التاريخ البهي للقدس، وتزوير هويتها وطمس معالم ما لا يقل عن أربعة آلاف سنة من التحضر العمراني والبشري. وها هي شبكة المواصلات الاسرائيلية (الطرق والجسور والأنفاق) تكاد تخفي مدينة القدس القديمة بحيث تبدو هذه المدينة كأنها ذات طابع يهودي غربي. ومن الواضح ان إسرائيل بدأت منذ احتلالها المدينة في 7/6/1967 في تشغيل جرافاتها لغاية محددة هي محو الفوارق المعمارية والحضارية بين القدس الشرقية القديمة والقدس الغربية الحديثة من خلال تشييد "متحف التسامح" في المكان الذي تقع فيه مقبرة مأمن الله (ماميلا) التاريخية، وبناء ما يسمى "مدينة داود الجديدة"، هي عبارة عن مجمع سكني كبير يحجب الطراز المعماري للقدس الشرقية، ويجعل امتداد القدس الغربية نحو الشرق أمراً طبيعياً من الناحية البصرية، من ناحية التنظيم المدني في الوقت ذاته. وسعت اسرائيل في سبيل ذلك إلى بناء بؤرة بيت أوروت الإستيطانية لتطل على مسجد قبة الصخرة، وبؤرة معاليه زيتيم لتطل على المسجد الأقصى. وتواصل المجموعات الاستيطانية المتطرفة العمل على بناء وحدات استيطانية في حي الشيخ جراح على أنقاض فندق "شبرد" أما "جمعية إلعاد" فتتمادى في عملية الاستيلاء على منازل المواطنين الفلسطينيين في حي سلوان. وفي الوقت نفسه تجهد السلطات الاسرائيلية لربط مستعمرة معاليه أدوميم في شرق القدس بالقدس الغربية، علاوة على نشر المجمعات الاستيطانية في جبل أبو غنيم (هار حوما) في القدس.

الفلسطيني غير المنظور
إن غاية التهويد في القدس، والاستيطان استطراداً، ليس إسكان اليهود في المناطق الفلسطينية فحسب، فهذا وحده يعني أن الاستيطان هو مسـألة ديمغرافية فقط. والحقيقة أن التهويد، علاوة على أهدافه الإسكانية، يتطلع على المدى البعيد إلى نتيجة غير خفية هي المحو، أي محو الوجود الفلسطيني في هذه المدينة، والاكتفاء بالقدر القليل من هذا الوجود بحيث تصبح القدس القديمة (داخل الأسوار) مجرد حي أثري في مدينة كبيرة حديثة ويهودية معاً. وهذه المدينة ستمتد، بحسب الخطط الاسرائيلية، من مستعمرة بيت شيمش وموديعين في الغرب، إلى حلحول القريبة من الخليل في الجنوب فإلى رام الله في الشمال، ثم إلى أريحا في الشرق. وبهذه الخطة المفزعة، في حال نجاحها، يجري تحويل الفلسطينيين إلى جماعات غير منظورة؛ فمن خلال الشوارع العريضة والأنفاق والجسور يمكن التجول في القدس من دون أن يرى الزائر أي فلسطيني إلا بالقدر الضروري لجريان الحياة اليومية، تماماً مثلما صارت إليه الحال في أراضي 1948.  فاليوم يمكن الزائر أن يتجول في فلسطين التاريخية من الناقورة في الشمال إلى بير السبع في الجنوب من غير أن يلحظ القرى الباقية للفلسطينيين في المناطق المحتلة منذ سنة 1948. وهذا هو بالضبط ما تحاول اسرائيل أن تجعله أمراً واقعاً، أي تحويل القدس القديمة إلى مكان أثري يستهوي السياح والحجاج المسيحيين.

حارة اليهود للفلسطينيين
كان اليهود في معظم المدن العربية مكان مخصوص بهم يدعى "حارة اليهود" على غرار حارات اليهود في دمشق وحلب وبغداد والقاهرة. وكانت القدس مجموعة من الأحياء المتجاورة والمتشابكة في نسيج عمراني وبشري واحد وفيها حارة للنصارى، وهي التي أفاض الصحافي نبيل خوري في الكتابة عنها، وكذلك حارة لليهود، علاوة على الحي الأرمني والأحياء الاسلامية الأخرى. وقبل سنة 1948 لم يكن في القدس كلها إلا نحو 2000 يهودي يقيمون في حارة اليهود، وهؤلاء غادروا الحارة إلى القدس الغربية وتل أبيب في سنة 1948، وجرى تهجير ثلاثين ألف فلسطيني من القدس الغربية. وبعد احتلال القدس الشرقية في سنة 1967 استولت جماعات يهودية على "حارة اليهود" بالقوة والمؤكد أن ما تسميه اسرائيل "حارة اليهود" هو حي يملك معظم منازله الفلسطينيون، ولم يكن اليهود يملكون أكثر من 15% منها. فمن بين 700 مبنى كان موجوداً في حارة اليهود حتى سنة 1948، لم يمتلك اليهود غير 105 مبانٍ فقط. والمعروف أن بعض سكان القدس الغربية الفلسطينيين أُسكنوا في حارة اليهود بعد تهجيرهم في سنة 1948. وفي سنة 1967 بعد احتلال الشطر الشرقي من المدينة، عمدت السلطات الاسرائيلية على الفور الى طرد ستة آلاف مقدسي من هذه الحارة، وأسكنت عدداً من العائلات اليهودية فيها، وهدمت المباني التي تعود ملكيتها إلى الفلسطينيين، ورممت المباني التي يملكها اليهود.

الحي الباقي
القدس هي أولى القبلتين وثالث الحرمين لدى المسلمين، وهي الإنجيل الخامس لدى المسيحيين، ففيها سار المسيح على درب الآلام الذي يبدأ من ساحة المدرسة العمرية في الحي الاسلامي اليوم والتي يُعتقد أن محاكمة المسيح في محكمة بيلاطس البنطي جرت في ذلك المكان ومشى بصليبه مكان صلبه. وهناك قام من بين الأموات بحسب العقيدة المسيحية، ثم صعد إلى السماء من جبل الطور (جبل الزيتون). وعلى سفوح جبل الطور تقوم كنيسة الجثمانية وكنيسة الصعود وكنيسة العذراء مريم. وفي القدس نفسها تقع كنيسة القيامة (أو كنيسة القبر المقدس) التي بنتها الملكة هيلانة والدة الامبراطور قسطنطين في سنة 335 ميلادية. وارتبطت القدس بعيد الصليب الذي يقع في 14 أيلول من كل عام، وهو ذكرى عثور الملكة هيلانة على خشبة الصليب الذي عُلق عليه يسوع.
على هذا المنوال اختار معاوية بن أبي سفيان القدس مكاناً للمناداة به خليفة. وفيها بنى عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة في سنة 691 ميلادية وأرصد لبنائه خراج مصر لسبع سنين. وفي سنة 699 ميلادية شرع الوليد بن عبدالملك في بناء المسجد الأقصى، وأتم بناءه في سنة 705 ميلادية. والوليد بن عبد الملك هو الذي بنى مسجد بني أمية في دمشق، والذي يُعد أجمل وأعظم المباني الاسلامية على الاطلاق. وتاريخ القدس الحديث حافل بالوقائع المهمة؛ ففيها عُقد المؤتمر الفلسطيني الأول في 27/1/1919 الذي أصدر الميثاق القومي الفلسطيني الأول ببنوده الثلاثة المشهورة التالية:  رفض إعلان بلفور، مقاومة الهجرة اليهودية والانتداب البريطاني، وحدة فلسطين مع الوطن الأم سوريا. وفي 12/4/1919 عقد الاجتماع التاريخي في القدس لتوحيد الموقف أمام لجنة كينغ كراين والذي تضمن ما يلي: استقلال سوريا الممتدة من جبال طوروس إلى قناة السويس؛ أن تتمتع فلسطين بالاستقلال الذاتي في إطار الوحدة السورية؛ رفض هجرة اليهود إلى فلسطين.
شهدت القدس في تاريخها الحديث اندلاع ثورة 1920، ثم ثورة البراق في سنة 1929، وعُقد فيها أول مؤتمر نسائي في 26/10/1929، أي قبل أول مؤتمر نسائي عربي في القاهرة الذي رئسته هدى شعراوي في سنة 1938. وفي القدس أصدر حسن البديري وعارف العارف أول جريدة في هذه المدينة هي "سورية الجنوبية". وفي ما بعد عُقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس سنة 1964، ومنه انبثقت منظمة التحرير الفلسطينية. وإذا كانت القداسة والسياسة قد طغت على الصورة العامة لهذه المدينة المجللة بالمساجد والكنائس، إلا أنها كانت، في الوقت نفسه، مدينة منفتحة على المواسم الاحتفالية التي كان الجميع يشارك فيها مثل موسم النبي موسى وعيد مار جرجس (الخضر) وأحد الشعانين وسبت النور وحتى عيد البوريم اليهودي (عيد المساخر). وعلى مسارحها غنت ام كلثوم، وتحديداً على مسرح سينما أديسون، وكانت اسمهان نزيلة دائمة في فندق الملك داود وهي في طريقها من مصر الى الشام وبالعكس. واحتضنت الاذاعة الفلسطينية التي أسست في القدس سنة 1936، وهي ثاني إذاعة عربية بعد الإذاعة المصرية التي ظهرت في سنة 1934 المطرب المصري محمد عبدالمطلب وعازف القانون المصري عبد الفتاح منسي (شقيق أنور منسي زوج المطربة صباح) وكذلك فيلمون وهبي من لبنان، والعازف الحلبي سامي الشوا والمحلن السوري الكبير عمر البطش وغيرهما. وفي سنة 1964زارت فيروز مدينة القدس ومعها عاصي منصور الرحباني، وبينما كانوا يجولون في شوارعها استوقفتهم إحدى السيدات وحدثتهم عن مأساة الاقتلاع واللجوء، وكيف أن أغنية "راجعون" ساعدتهم على الأمل. ثم أهدت هذه السيدة الى فيروز مزهرية، فبكت فيروز وغنت لاحقاً  أغنية "القدس العتيقة" التي جاءت على ذكر تلك المزهرية.
في 23/1/1950 أعلنت اسرائيل أن القدس (الغربية) عاصمة أبدية لإسرائيل، ونقلت مبنى الكنيست إليها، ثم بَنَت نصباً للمحرقة النازية (ياد فاشيم) فيها. وفي 7/6/1967 احتل الجيش الاسرائيلي ما بقي من القدس(القدس الشرقية). وفي 30/7/1980 أصدر الكنيست قانون أساس يعتبر القدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل. وما برحت اسرائيل سادرة في غيها، سائرة إلى أهدافها من دون أي رادع يرغمها على إنهاء احتلالها لهذه المدينة المتألمة، حتى أن كثيرين من أهل القدس باتوا يطلقون على الحي العربي في المدينة عبارة "الحي الباقي". فياللحسرة والغضب!