افتتاحية مجلة القدس العدد 330 ايلول 2016
بقلم: الحاج رفعت شناعة

في العام 1976، في الثلاثين من آذار كانت هبَّة الجليل والمثلث والنقب بوجه الاحتلال لحماية الأرض من المصادرة والتهويد، وشكَّل يوم الأرض الإنذار التاريخي الأول للكيان الصهيوني بأنَّ الأرض لها أهلها وقدسيتها ودونها الدماء والشهداء والتضحيات.
وفي العام 1987، في التاسع من شهر كانون الأول كان الوطن بأرضه التاريخية على موعد مع شهداء جباليا، مع الشرارة الأولى التي انطلقت من قطاع غزة لتُشعل الأرض تحت أقدام الاحتلال في كل ساحة وشارع، في كل حيٍّ ومخيّم، الشعبُ كله استنهض قواه الوطنية، والسياسية، والاجتماعية، المرأة قبل الرجل، شيباً وشُبّاناً، وحولهم جنرالات الحجارة، وانتصر الحجر الفلسطيني على الرصاص الصهيوني المشحون بأحقاد أتباع التلمود. وانتصر الرمز ياسر عرفات بعزل الكيان الصهيوني دولياً وهو الملطّخةُ يداه بدماءِ أطفالنا ونسائنا.
وفي العام 2000 في الثامن والعشرين من شهر أيلول، تفجَّر الاحتقان السياسي، والإرهاب الصهيوني، والتواطؤ الأميركي الذي يسعى دائماً إلى تدمير الحُلم الفلسطيني، وتثبيت الوجود الصهيوني الاستيطاني والاقتلاعي، وهذا ما أدّى إلى تعطيل تنفيذ اتفاق أوسلو، وكانت قمّة كامب ديفيد الثانية في الولايات المتحدة حيث الحضور كان إجبارياً، والمغادرة من القاعات هناك ممنوعة، فالإقامة إجبارية، والخيارات صعبة أمام القيادة الفلسطينية، والتهديدات على قدم وساق ومن كل صوب وجانب، والمطلوب من الرمز ياسر عرفات أن يتنازل عن القدس، وعن حق العودة مقابل وعود مالية مغرية، وغاب عن كلينتون ووزيرة خارجيّته برايت أنَّ ياسر عرفات هو مفجِّر الثورة، وهو ابن القدس والأقصى، وهو الرقم الصعب، وهو رجل الثوابت الوطنية، وهو حامي القرار الفلسطيني المستقل، وهو الذي قال: "يا جبل ما يهزَّك ريح".
وكانت الصفعة التي وجّهها القائد التاريخي أبو عمار للرئيس كلينتون عندما قال له لن نتنازل عن حبّة تراب من تراب القدس، ولن نُفرِّط بحق لاجئ في العودة، والقدس ليست ملكاً لنا وحدنا وإنما هي ملك للأُمّة العربية والإسلامية، وهل الأُمّة العربية والإسلامية جاهزتان للتنازل عن القدس وترابها؟؟ وإذا كنتم مُصِرين على نزع حقوقنا الوطنية، فأنا أدعوكم لحضور جنازتي في فلسطين، ولن نتراجع أو نتخلّى عن ثوابتنا الوطنية. وكانت شرارة المعركة مع دخول شارون إِلى باحة الأقصى حيث حصلت المواجهات الشرسة مع ثلاثة آلاف جندي صهيوني جاؤوا ليحموا شارون، واستشهد ثلاثة عشر شابّاً فلسطينياً، وكانت رسالة واضحة من الشعب الفلسطيني مكتوبة بالدماء الطاهرة موجَّهة إلى الاحتلال، وإلى الولايات المتحدة بأنَّ ثوابتنا الوطنية دونها أرواحنا ودماؤنا.
وفي 29/9/2015 كانت الهبَّة الشعبية الشبابية المحتقنة بالعنفوان والإصرار والتحدي الفلسطيني، وقدَّم حوالي مئتين وأربعين شابّاً وصبية أرواحهم ليُذكِّروا العالم بأنَّ الأرض أرضنا، وأنَّ القدس وأقصاها لنا، وأنَّنا أهل الصمود والتحدي، وأنَّنا نحن الذين نكتب صفحات أمجادنا بدماء وتضحيات شهدائنا. ولم يملك نتنياهو وعصاباته من غلاة المتطرِّفين والمستوطنين أمام هذه الهبَّة إلاَّ أن يمارسوا الإعدامات الميدانية بحق أطفالنا، وفتياتنا، وفِتياننا، بهدف الإبادة لهذا الجيل المنتفض من أجل كرامة المقدسات، والأرض المباركة.
الهبَّة الشعبية لم تنتهِ لأنّها تحمل في جيناتها الكثير من عناوين السياسة، والمقاومة بكل أشكالها، والتحوُّلات المفاجئة ميدانياً وإعلامياً، ودولياً.
واليوم يعيش شعبنا الفلسطيني انتفاضةً سياسيةً عارمةً أعلن مبادئها وعناوينها سيادة رئيس دولة فلسطين وهو الذي استطاع بحكمته وحنكته، ودرايته السياسية أن يضع شعبه أمام محطة تاريخية جديدة ملؤها المصارحة، والواقعية، والتحدي، وتسخين جبهة إزالة الاحتلال. وبالتالي على العالم أن يحدِّد مواقفه بجرأة وبموضوعية، فالشعب الفلسطيني بعد قرابة سبعين سنة من العذاب والتشرُّد على مرأى ومسمع من الجميع، وذلك كله بسبب قرار دولي أعطى كياناً للصهاينة على أرض فلسطين، وحرم الشعب الفلسطيني من إقامة دولته على أرضه.
إنَّ الخطة السياسية والقانونية التي وضعَ أُسُسها رئيس دولة فلسطين لاستعادة الحقوق الفلسطينية هي:
أولاً: على العالم أن يدرك بأنَّ السلام والاستيطان ضدان لا يلتقيان، وعلى دول العالم أن تحسم موقفها إذا أرادت السلام في فلسطين.
ثانياً: نطالب العالم بكافة هيئاته أن يحترم قرارات الشرعية الدولية التي صنعتها شعوب ودول العالم بنفسها، ونحن اليوم كفلسطينيين ندفع ثمن تمسُّكنا بها للأسف.
ثالثاً: نحن نتمسَّك بحل الدولتين الذي أقرَّته الشرعية الدولية، ونادى به الجميع، واليوم تخلّى عنه أصحاب القرار في العالم لأنَّ الكيان الصهيوني لا يريده، وإنما أصبح يطالب الفلسطينيين بضرورة الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وهذا ما رفضه الرئيس أبو مازن على كل المنابر الدولية.
رابعاً: إنَّ الاعتراف المتبادَل الذي تمَّ أثناء اتفاق أُوسلو لم يكن مجانيّاً، وإنما كان ثمنه انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من أرضنا، والاعتراف بالدولة الفلسطينية على كافة الأراضي المحتلة العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا يعني أن عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيقود إلى سحب الاعتراف من قِبَلنا، وهذا يعني ازدياد حدة الصراع على أرض الواقع.
خامساً: يسعى الرئيس أبو مازن للحصول على قرار دولي بتأمين الحماية الدولية للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال من جرائم جيش الاحتلال والمستوطنين والمستعربين، لأنَّ موافقة العالم على استمرار الوضع على حاله هو مشاركة غير مباشرة في ارتكاب الجريمة.
سادساً: لقد دقَّ الرئيس جرس الإنذار وبجرأة الحق الفلسطيني المُصَادَر من قِبَل الاحتلال مطالباً بريطانيا صاحبة وعد بلفور المشؤوم والتي أعطت الحق وساعدت الحركة الصهيونية العالمية بإقامة الكيان الإسرائيلي على أرضنا فلسطين التاريخية، وبالمقابل تشريد شعبنا الفلسطيني منذ سبعين عاماً. وطلب الرئيس من بريطانيا "أن تتحمَّل المسؤولية التاريخية والقانونية والسياسية والمادية والمعنوية لنتائج هذا الوعد بما في ذلك الاعتذار من الشعب الفلسطيني لما حلَّ به من نكبات ومآسٍ وظلم..."، وهذه جبهة جديدة فتحتها القيادة الفلسطينية على الصعيد الأوروبي.
سابعاً: نحن لسنا في موقع الضعف لأنَّنا أصحاب الحق التاريخي والدفاع عنه مهمتنا المقدسة. والإنذار موجَّه بكل جديّة إلى الكيان الصهيوني الذي سبَّب نكبتنا، وشرَّد شعبنا، وأَجرَم بحق أجيالنا أن يتحمَّل مسؤولياته عن كل تفاصيل وتداعيات النكبة، وحقوق الشعب لا تضيع مهما كانت المسيرة طويلة وشاقّة.
ثامناً: كان الرئيس أبو مازن في قمّة الجرأة عندما طالب العالم بأن يكون منسجماً مع ذاته، ومنصفاً للحقيقة والعدالة عندما قال: "إنَّ مَن يؤمن بحل الدولتين عليه أن يعترف بهما، وليس بدولة واحدة". أي أنَّ على العالم الذي يدَّعي الديموقراطية والعدالة وهو يعترف بالكيان الاسرائيلي، أن يعترف أيضاً بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية. والذي لا يفعل ذلك فهو إنما يشارك الاحتلال عدوانه على شعبنا.
تاسعاً: صفحة جديدة فتحها الرئيس أبو مازن تتعلَّق بقرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة العام 1947 في 29 تشرين الثاني، وهو الذي أعطى الجانب الصهيوني كلَّ ما يريد وساعده على احتلال أرض الدولة الفلسطينية جهاراً نهاراً بدون أي ردة فعل. ولتكفير ذنوب وأخطاء المجتمع الدولي وتقصيره ليس أمامه سوى الوقوف إلى جانبنا أي إلى جانب العدالة والشرعية الدولية لدعم مشروع القرار الذي سنقدِّمه لإزالة الاحتلال من أرضنا، ولإقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية خاصة بعد قرار رفع مكانة دولة فلسطين في العام 2012.
إنَّ العام 2017 سيكون عام الصراع المحتدم ضد الاحتلال، وهذا يتطلَّب طبعاً تحقيق المصالحة الوطنية، والإسراع في عقد مؤتمر حركة "فتح"، والمجلس الوطني الفلسطيني، وهذا ما يشكِّل حصانة حقيقية للموقف الفلسطيني.