تحقيق/ ولاء رشيد
خاص مجلة القدس

هي ليست بالعلاقة الجديدة أو المستحدثة، ولا هي ظرف طارئ نشأ ولا يلبث أن يضمحل، بل هي رابطٌ عمره أكثر من 60 عاماً هي عمر النكبة الفلسطينية وهي عمر علاقة المخيمات الفلسطينية بالجوار اللبناني.

علاقة قائمة على عوامل متعددة

إذا ما أردنا العودة لتاريخ العلاقة الفلسطينية اللبنانية الفعلية، لوجدنا أنَّها تعود لأمد طويل حين كان الشعبان الفلسطيني واللبناني يدخلان أراضي بعضهما بهدف التجارة  وبسبب متانة العلاقة بينهما. وفي هذا الصدد يُرجع مختار الغازية محمود عباس جوني نشوء العلاقة إلى فترة ما قبل النكبة فيقول: "كان أهل الجنوب اللبناني يقصدون فلسطين لسببين الأول شراء البضائع وبيعها، والثاني العبور من فلسطين إلى مصر. وبدورهم كان الفلسطينيون يدخلون لبنان لأغراض تجارية، وكانوا أيضاً يعبرون منه إلى وجهات أخرى. ومن هنا فقد تشكل بين الفلسطينيين واللبنانيين رابط مميز. وبالطبع فبسبب العمليات التجارية شكلت بعض المدن والمناطق اللبنانية محطات استراحة للفلسطينيين، ما ساهم بنشوء رابط مميز بين هذه المناطق والفلسطينيين ومنها الغازية ومنزل مختار الغازية آنذاك الحاج رضا خليفة على وجه الخصوص".
ويتابع جوني "بعد نكبة عام 1948، كان المختار خليفة أبرز المحتضنين للفلسطينيين. ثمَّ تولَّى إبنه أبو طلال المخترة من بعده وكوالده حرص على علاقته مع الفلسطينيين، وقد عملتُ لديه كقائم بأعماله قبل أن أصبح مختاراً، وكنت اسمعهم يسمُّونه سفير الفلسطينيين، لأنَّه كان يُستدعى لاتمام الصلح في أية مشكلة تحدث مع الفلسطينيين حتى في عين الحلوة".
مضيفاً: "وبالنسبة لعلاقات الأهالي فهي طيبة ومتينة خاصة أنَّ الغازية تضم تجمعاً كبيراً للفلسطينيين من مختلف العائلات، إلى جانب كونها من المناطق المجاورة لمخيم عين الحلوة، إضافةً إلى علاقات المصاهرة والعلاقات التجارية حيثُ أنَّ العديد من الفلسطينيين أسسوا المصالح ونحن نقصدهم لأنَّهم معروفون بنشاطهم في العمل. كما أنَّ التاريخ يشهد أيضاً على العلاقة بين الغازية ومخيم عين الحلوة، فالعديد من أصحاب المحلات والأفراد يقصدون المخيم لشراء البضائع بسبب رخص الأسعار ومعرفة الناس وحسن المعاملة من قبل التجار الفلسطينيين. معلِّقاً بالقول" ثمَّ كيف لنا ألا نحب الفلسطينيين وهم أناسٌ طيبو النفوس وكرماء إلى أقصى الحدود. إلا أنَّ أكثر ما يدهشني فيهم هو رغبتهم في التخلص من الحرمان الذي يعيشونه، والتي يترجمونها حباً وشغفاً في اكتساب العلم".
من جهته يرى عضو منطقة صيدا في حركة "فتح" أبو أحمد زيدان بأنَّ العلاقة بين مخيم المية ومية وضيعة المية ومية اللبنانية الملاصقة للمخيم هي علاقة جيدة جداً وخاصة في السنوات الأخيرة. ويشير زيدان إلى أن "أهالي المنطقتين يتبادلون الزيارات ويقفون إلى جانب بعضهم في الأفراح والأتراح، وحتى أنَّ ضيعة المية ومية توفر فرص عمل للفلسطينيين"، لافتاً إلى التنسيق الموجود وتعدد الزيارات التي تقوم بها الفعاليات الفلسطينية من مخيم المية ومية على صعيد حركة "فتح" واللجان الشعبية إلى الفعاليات البلدية في ضيعة المية ومية، حيثُ تتم معالجة وتنسيق العديد من القضايا العالقة، وهو ما من شأنه رأب العلاقة والعمل على رمي الماضي وإعادة علاقة المحبة والاحترام خاصةً وأنَّ الفلسطينيين يعمدون إلى النأي بالنفس تجاه أي شأن لبناني داخلي وهو ما ظهر في أكثر من حدث مؤخراً، إضافةً إلى المواقف الايجابية التي اتخذها اللبنانيون من طرفهم.
بدورها أشادت أمين سر بلدية المية ومية نبيلة الحايك بالعلاقة القائمة بين مخيم المية ومية والضيعة، لافتةً إلى أنَّ العلاقة مبنية على عدة عوامل أهمها الجوار وبعض علاقات المصاهرة. في المقابل،تشير الحايك إلى أنَّ الأحداث التي شهدها لبنان إبان الاجتياح  كانت من العوامل التي ساهمت في إحداث فجوة في العلاقة بين سكان المخيم والضيعة، إلى جانب خوف سكان الضيعة من الوضع الأمني في المخيم. غير أنَّها ترى بأنَّ المياه بدأت بالعودة إلى مجاريها مؤخراً وبدأت العلاقات المتماسكة التي كانت سائدة عندما كان المخيم والضيعة متلاصقين لتعود بفضل الزيارات المتبادلة بين الفلسطينيين واللبنانيين على صعيد الفعاليات، مما لعب دوراً غاية في الأهمية وساهم بتحسين الصورة الأمنية للمخيمات، مؤكدةً بأنَّ "العديد من الفلسطينيين يعملون في الضيعة ويستثمرون العديد من الأراضي بسبب ثقة أهل الضيعة بالفلسطينيين وتفضيلهم لهم بحكم الجوار. علماً انَّ مشفى الهمشري لعب دوراً كبيراً أيضاً لأنَّ العديد من أهالي الضيعة يقصدونه للطبابة".
أمَّا من جهة العائلات والأهالي، فيقول أبو محمد ذيب "منزلنا يعد  في آخر مخيم المية ومية وأول ضيعة المية ومية، وتجاورنا عائلة لبنانية منذُ أكثر من عشرين عاماً. وخلال هذه الفترة اعتدنا على تبادل الزيارات ومشاركة بعضنا في الأفراح والاتراح وحتى في تبادل بعض التقاليد فكانت ام جورج ترسل للأولاد بيض عيد الفصح وفي المقابل كانت زوجتي ترسل لها كعك العيد" لافتاً إلى أنَّهم كانوا يتشاركون أيضاً  الطعام والجلسات والعونة.
أمَّا  روزيت الحايك وهي لبنانية مقيمة منذُ أكثر من عشرين عاماً في منزل يقبع في مخيم المية ومية، فرغم انتقالها مؤخراً إلى منزل ابنها في الضيعة لترعى أطفاله بسبب ذهابه وزوجته للعمل، إلا أنَّها لا زالت تزور منزلها في المخيم بشكل شبه يومي، وتقول: "كلما وصلت لمنزلي استقبلني أهل المنطقة بكلمات الترحيب والمحبة. وحتى أنني سلَّمت مفاتيح الحديقة خاصتي لجار فلسطيني يدخلها ويعتني بها ويوصلني دائماً إلى وجهتي عندما يكون ابني مشغولاً"، لافتةً إلى أنَّ علاقة الضيعة بالمخيم هي جيدة وخاصةً في السنوات القليلة الماضية حيثُ شهدت هذه العلاقات تحسناً كبيراً بسبب الزيارات المتبادلة للفعاليات وخاصةً في المناسبات.
ويؤكد أبو محمد أبو النجا  وهو لبناني متزوج من فلسطينية ومقيم وعائلته في المخيم منذ أكثر من 30 عاماً بأنَّ علاقته طيبة جداً مع أهالي المخيم ومع جيرانه، وهذا ما يشدد عليه بدوره أبو وليد سمور أحد الجيران  الفلسطينيين لأبي محمد، معتبراً أنَّ "الجميع يعاملون بعضهم في المخيم ك الأخوة حتى أنَّ لهجة بعض اللبنانيين أصبحت مماثلة للهجة الفلسطينيين. هذا عدا عن الزيارات المتبادلة وعلاقات المصاهرة، إلى جانب الاختلاط بحكم مجيء العديد من اللبنانيين إلى لمخيم لشراء بضائعهم"، لافتاً إلى أنَّ أي توتر أو خلاف يحدث في المخيم يكون له أثر محدود على وضع المخيم نفسه لا على طبيعة علاقة تعود بجذورها إلى أمد بعيد.

تحسُّن مقيَّد ببعض العراقيل


رغم تأكيد الأهالي على حسن علاقات الجوار، إلا أنَّ هذا لا ينفي وجود بعض العراقيل.
فيرى كل من محمود الحيدري وهو تاجر قديم في عين الحلوة يبيع السكاكر والبن والمواد الغذائية، وهاني الشايب أحد أصحاب محلات الشايب للمواد الغذائية بأنَّ العلاقات التجارية بين المخيم وجواره اللبناني جيدة، حيثُ أنَّ العديد من اللبنانيين يقصدون المخيم للشراء منه بسبب رخص الأسعار، إلى جانب بعض التجار اللبنانيين أصحاب المصالح الصغيرة. ولكنَّهما يجمعان على أنَّ أبرز العراقيل التي تعيق تحسن الحركة التجارية هي ضيق الطرقات ووعورتها إلى جانب اكتظاظها بالأوساخ وقطع الحديد الناتئة ما يشكل أزمة لدى اللبنانيين الذين يشترون بالجملة، وبالتالي يضطر الفلسطيني إلى إيصال البضائع لهم بنفسه وعلى نفقته، مشيرين إلى أنَّ هذا الأمر يؤثر أيضاً على حركة التبادل التجاري الفلسطيني-الفلسطيني في حال كان المشتري الفلسطيني من خارج المخيم إذ انَّه قد يعمد لقصد تاجر آخر خارج المخيم بسبب عدم إمكانية إدخال السيارات وناقلات البضائع. أمَّا خليل فرحات وهو أحد التجار الموردين للشايب فيعتبر بأنَّ الوضع الأمني إذا ما استقر خارج المخيم فإنَّه ينسحب إيجابياً على داخل المخيمات، مما يؤدي بدوره إلى تنشيط الحركة التجارية بين أبناء المخيم وجواره اللبناني.
ويرى المختار جوني بأنَّ حال العلاقات تراجع في الآونة الاخيرة  رغم مروره بتحسن تدريجي مؤخراً، مشيراً إلى أنَّ هذا التراجع مرده عامل تعدد التنظيمات والحركات في مخيم عين الحلوة، حيثُ يقول:" في السابق كنا نذهب ونحن مطمئنون أنَّه إذا حدث أيُّ سوء تفاهم فبإمكاننا اللجوء إلى حركة "فتح" التي كانت المرجع الوحيد لضبط المخيم والمحافظة على أمنه واستقراره، والتي كانت ولا زالت تربطنا بأفرادها أواصر الصداقة والأُخوة ومنهم أبو إياد شبايطة رحمه الله  وخالد عارف الذي كان والده أبو قاسم يملك دكاناً في الغازية يقصدها العديد من الأهالي لما عُرف عنه من طيب السمعة ولأنَّه كان معروفاً كأحد وجهاء الفلسطينيين الوطنيين الموثوق بهم. أمَّا الآن، فقد أصبح عدد التنظيمات أكثر من عدد أهل المخيم، وبتنا نخشى دخوله خاصةً مع ما يشيعه الاعلام كلَّ يوم من أخبار بعض الذين لن أسميمهم إلا "زعراناً" يشوهون صورة المخيم وأهله".
غير أنَّ زيدان يلفت إلى أنَّ ما يعرقل علاقات مخيم المية ومية والضيعة هو عائق المنفذ المباشر، موضحاً أنَّه "قبل الاجتياح الإسرائيلي كان المخيم يمتد ليلاصق الضيعة بشكل تام وكان أهالي المنطقتين يزورون بعضهم بشكل يومي. ولكن بعد الاجتياح تدمر جزء كبير من المخيم وبقيت صلة الوصل بين المنطقتين هي طريق كانت تسمح للطرفين بالتنقل وزيارة بعضهم. ولكنَّ هذه الطريق ما لبثت ان أُغلقت، وبالتالي بات على من يرغب من المخيم بزيارة الضيعة والعكس أن يعبر من خلال طريق مستشفى الهمشري ما يعني زيادة في الوقت والمسافة.
ويأمل زيدان أن تتحسن العلاقة منوهاً بالجهد المطلوب من الطرف الفلسطيني والطرف اللبناني للعمل على فتح الطريق بين المخيمين، مشيراً إلى أنَّ هذه القضية هي من مسؤولية الطرف اللبناني بالدرجة الأولى، ولافتاً إلى وجود تواصل مع بلدية ضيعة المية ومية في هذا الصدد من أجل إظهار  التعايش الموجود بين الشعبين من مختلف الأطياف.
وفي السياق ذاته، شددت عائلات مخيم المية ومية إلى جانب عائلات الضيعة على كون الطريق أهم العوائق التي تحول دون النهوض بالعلاقة، خاصةً وانَّ الطريق الوحيدة الموجودة مغلقة بحاجز جيش لبناني لا يسمح بمرور السيارات وحتى أنَّه يضيق على الأفراد ولا يمر من خلاله إلا من لديه معارف من الجيش أو يملك تصريحاً معيناً.

آفاق وحلول النهوض بالعلاقة

رغم إجماع معظم الأهالي والفعاليات على كون الطرقات والعوامل الأمنية هي أبرز المعيقات الواجب حلها للنهوض بالعلاقة بمستوياتها الاجتماعية والاقتصادية، يرى كاهن رعية سيدة البشارة لدرب السيم الأب غازي خوري أنَّ الحلول المادية هي أمور لا بدَّ منها، وأنَّ الحل الفعَّال يجب أن يتخذ بعداً آخر هو البعد الانساني. وينوه الأب غازي بأنَّ علاقة أهالي درب السيم وجوارهم الفلسطيني في مخيم عين الحلوة هي علاقة جيدة نوعاً ما وإن كان بعض التحفظ يشوبها، حيثُ أنَّ الشعبين يتشاركون القضايا نفسها بما فيها السلام والأرض والحرية والاستقلال وغيرها، إلى جانب الدور الفعال الذي تحققه الزيارات المتبادلة بين الفعاليات الفلسطينية والفعاليات اللبنانية. ويؤكد الأب غازي أنَّ الحل يكمن في ايلاء المجتمع الأهلي لمسألة إعادة تأهيل الإنسان اهتماماً كافياً مماثلاً للاهتمام الذي يوليه لقضايا أخرى كالأمراض والاقتصاد وسواها، لأنَّ العامل الإنساني يماثل هذه القضايا أهمية وإن لم يكن أكثر، مشدداً على أنَّ كلا العنصرين اللبنانبي والفلسطيني يحتاجان إلى تأهيل إنساني بسبب ضعف التربية السليمة وعنصر المؤامرات إلى جانب عنصر الكسب المادي الذي يتجلى عبر محاولات إدخال المخدرات إلى المخيمات والمناطق اللبنانية.
ويرى الأب غازي بأنَّ أحد الحلول يقوم على إعادة تنظيم أسس العلاقات من خلال استغلال طاقات الإنسان الإيجابية من قِبَل المجتمع الأهلي وبناء العلاقات وتطويرها كي لا يُشكِّل  ضعاف النفوس من الطرفين بيئة خصبة قابلة للاستغلال من قبل ذوي المصالح الكبرى، ملخصاً خطوات التأهيل بـ"تعرُّف المعنيين من مسؤولين ومنسقين وجمعيات على طبيعة المجتمع وادراكهم لمكامن ضعفه وقوته ليضعوا خطة عمل فعالة أولاً، ثمَّ تأهيل العنصر الشبابي وهو المكون الأساسي في عملية الاصلاح، بحيث يتم العمل معهم على بناء علاقات تقوم على أسس طيبة، وذلك من خلال انخراط الشباب الفلسطيني في الجمعيات الأهلية الفلسطينية وانخراط الشباب اللبناني في الجمعيات الأهلية اللبنانية وبذلك نضمن تأهيل الشباب وخاصة في مسألة القيم والمعاملة الانسانية، ومن ثمَّ تأتي عملية دمجهما معاً في جمعيات أهلية ذات نشاطات مشتركة لنعلِّم هؤلاء الشباب قيم السلام وقبول الآخر وتذليل العقبات. إضافةً إلى ذلك فلا ننكر دور الإعلام في رسم العلاقة حيثُ أنَّ الإعلام يقع أحياناً في خطأ تجييش الأحقاد، مثلما يقع في خطأ الإساءة للعلاقة عبر عدم الاهتمام بها والتطرق اليها، فالإعلام يجب أن يكون أداة تربوية قبل كل شيء كما قال البابا يوحنا بولس الثاني الطوباوي حين أشار إلى أنَّ الاعلاميين هم رسل القرن ال21 منوهاً بأهمية العمل الإعلامي وضرورة تحليه بالمبادئ والقيم".