عتقد أن المسؤولين عن القرارات الاستراتيجية في المنطقة وفي دول العالم التي لها مصالح كثيفة في المنطقة يتابعون الآن بأدق التفاصيل والمعلومات الاستخبارية ما يجري في منطقتنا من وقائع وحقائق وخرائط متغيرة, خاصة بعد الهجوم الكاسح الذي شنته «داعش» (حسب وكالات الانباء العالمية) حيث تجاوزت محافظتي نينوى وصلاح الدين, وأصبحت على مشارف العاصمة بغداد من جهة الشرق في محافظة ديالا في الشمال بعد تكريت جنوبا, وقبل ذلك كانت هذه الـ «داعش» قد أثبتت حضورا فاعلا ومشهودا في الأنبار وفي الفلوجة والرمادي وصولا الى الحدود السورية في الرقة ودير الزور, وهي منطقة واسعة, ومفتوحة جدا.
وهذا التقدم السريع الواسع يعيد طرح الاسئلة من جديد, كيف أنهار الجيش العراقي في مدينة كبيرة جدا وهي الموصل، وهل «داعش» تنظيم ارهابي كما هو المصطلح الشائع، ومن هي القوى التي تقف مع «داعش» أو تتحرك تحت عنوانها التي تجعلها تنفذ في الميدان تكتيكات عسكرية راقية لا صلة لها بقدرات مجموعات ارهابية، هل هو الجيش العراقي القديم, جيش صدام حسين, الذي حله الاميركيون, ووضعوا لحكام العراق جيشا جديدا يحل مكانه دون أن يثبت أنه مجد بأي حال من الأحوال.
ملخص الأحداث منذ الغزو العراقي في 2003 وحتى هذا الاندفاع السريع والواسع لـ «داعش» يقول ان العراق العظيم لا يمكن ابتلاعه بهذه السهولة, انه كيان معقد سواء بتاريخه أو مكوناته أو ثاراته المتراكمة, والأخطاء الفادحة التي يرتكبها اللاعبون في ساحته لم يكتب لها النجاح حتى هذه اللحظة, وأن لعبة الانقسام الطائفي والعرقي التي اعتمد عليها الاميركيون وحلفائهم حين قاموا بغزو العراق قبل أحد عشر عاما هي لعبة خطيرة ترتد بقسوة على اللاعبين أنفسهم, وبعد الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها, المالكي, واتتلاف دولة القانون المشايع له, أثبتت أن هذا الفوز لا يمكن تجسيده بسهولة, تماما مثل «الشيك» الذي بلارصيد, حيث اتضح أن المالكي الذي استأثر بالسلطة, وجمع في يده بالاضافة الى رئاسة الوزراء, قوة المال, ووزارتي الدفاع والداخلية, أصبح عاجزا عن استخدام هذه الأدوات, وانهيار وحدات جيشه في الموصل هو الدليل الساطع, بل ان أقطاب الشيعة أنفسهم مثل الصدر والحكيم وغيرهم لم يكونوا راضين عن أدائه, ولم يكونوا موافقين على طموحه بولاية ثالثة, لأن أخطاءه كانت فادحة حتى بالنسبة للشيعة أنفسهم الذين وجدوا أنفسهم كما لو انهم «جالية» وليس شعب العراق من الشيعة الشقيق التاريخي لاخوتهم شعب العراق من السنة.
ربما لا تصل «داعش» الى العاصمة بغداد, وربما تتمكن الارادات العراقية في الشيعة والسنة وفي العرب والأكراد من منع الأنفجار الطائفي كما جرى في 2006, ولكن من المؤكد أن القرارات المطلوبة يجب أن تأتي من خارج الصندوق القديم, لأن كل الوصفات القديمة لم تعد مجدية, وهي نوع من الانتحار لاصحابها, ووحدة العراق هي ضرورة ملحة لأهلة من كل عناصر التنوع الموجودة, كما هي ضرورة ملحة لكل الجيران العرب والأكراد والايرانيين والأتراك, لأن التسليم بتمزق العراق سوف ينداح الى كل المنطقة, فليس هناك قطر عربي أو اسلامي حول العراق الآ ويحمل نفس خصائص التنوع الطائفي والعرقي, وأعتقد أنه لا بد من ضبط العلاقات بين الجيران التاريخيين, وضبط العلاقات والوصول الى درجة معقولة من التوازن في المصالح يحتاج الى محور عربي قوي يحتشد حوله الجهد العربي المشترك, وأعتقد أن خروج سوريا من هذا المحور الذي يضم تاريخيا السعودية ومصر هو الذي سبب هذا الضعف وهذا الارتباك, وبالتالي فان العيون تتجه الى مصر الآن لتستعيد هذا المحور بغض النظرعن الخلافات السعودية السورية التي سادت في السنوات الأخيرة, ولكن مصلحة الأمن القومي العربي يجب أن تكون فوق كل الخلافات, وفوق كل الحساسيات الطارئة.
لقد ثبت أن تسليم قضايا المنطقة بالمطلق للمستوى الدولي ليس من مصلحة المنطقة, لأن المستوى الدولي له صراعاته وأولوياته, واذا غاب الفعل العربي والفعل الاقليمي عن المنطقة مثلما جرى منذ غزو العراق وصولا الى أحداث ما يسمى بالربيع العربي, فان الخسائر ستكون كبيرة, وربما نجد أنفسنا أمام خرائط وقوى جديدة تدير الأمور, ولذلك فان ضبط العلاقات بين القوى الاقليمية يجب أن يكون هو البداية, والبداية دائما يجب أن تكون عربية, من خلال بناء محور عربي قوي قادر على ادارة المتغيرات مهما كانت عاصفة.