في بيانه الثالث، المفعم ألماً ونُبلاً؛ يقدم «الحراكالوطني» تكثيفاً بارعاً لصورة الحال في غزة، ويوجه الدعوة لشعبنا، لكي يتجاوز وضعيةالاندهاش والصدمة، التي مرّت عليها أعوام، بعد سيطرة الشرهين الفاسدين المتلطين بالدين،على أرضٍ لطالما كانت نبعاً للبطولة والثورة والتحدي، وللوئام الاجتماعي، وللوعي الفلسطينيالعام، بمدركات القضية وبالأواصر بين الفلسطينيين في كل مكان، ولطالما كانت أرضاً للتسامحوالتحابب بين الناس!

لم يعد السكوت على وضع غزة، هو الأقل إيلاماً، ولا عُسرولادة ربيعها، هو المقّدر الى أجلٍ غير مسمى. فالمستبدون الظالمون الفاسدون، استنفدواذرائعهم، وباتت تشدقاتهم المشبعة بمفردات الدين والفضيلة، في موضع السخرية، وما السكوتعلى عربدتهم، إلا عاملاً يساعد على خديعة الأبعدين الذين يظنون أنهم ساهرون على الثغورمجاهدين. لكن أهل قطاع غزة، الذين يمتلكون الفطنة والذكاء وسرعة البديهة، حسموا رأيهموباتوا يتلمّسون اللحظة لحسم أمرهم. أدركوا، من خلال وسائل إيضاحية لا حصر لها، الفارقبين حال وحال، وبين منطق ومنطق، واستعانوا بذاكرتين، واحدة من تجربهتم القريبة، والثانيةمن التاريخ. فلم يحدث في تجاربهم الماضية، ولا في التاريخ، أن تعرّض المجتمع لهذا الشكلمن الاعتصار المؤلم، ولا الى هذا الجشع من سلطة حاكمة، ولا الى هذه اللصوصية التي تطالأرزاق الناس، ولا الى هذه المصادرة والحصار لسبل عيشهم وآفاق خبزهم. مواد الإعانة الواردةمن الخارج لإغاثتهم، تُباع في المتاجر لحساب سلطة الأمر الواقع، والأدوية التي أرسلهاالمتعاطفون لغرض طبابة الناس الفقراء، تباع في الصيدليات لصالح خزينتهم، وبسطات الباعةتُقاس بالسنتيمترات، لكي تُجبى عنها أموال الخوّات حسب مقاسها لا حسب قيمة معروضاتهامن الفجل والبقدونس، وتنتزع الأموال من أيدي الناس، كأنها المكوس التي كان يبغضها رسولالله صلى الله عليه وسلم. فهل يمكن لسلطة أمر واقع، حتى ولو كانت مستدعاة من عالم الاستبدادوالعبودية في القرون الوسطى؛ أن تخصص لتحصيل المال، أحد أتباعها، لكي يأخذ جزءاً منثمن كل شطيرة «شاورما» يتناولها المشتري من بائع. إن هذا يحدث في غزة. فضلاً عن ذلك،فإن الفوارق بين الناس، تتكرس وتتعدد معايير قياسها، والدَجَل باسم الدين و«المقاومة»ماضٍ بوقاحة، والأفق الوطني مسدود، ولا اكتراث بالمخاطر التي تتهدد مستقبل الوطن والقضيةوالمجتمع!

آدمية الإنسان في غزة، تعيش لحظات عذاب غير مسبوق، ولامناص من الحراك. ليس حراكاً نتوخاه لنُصرة فئة أو فصيل أو حركة أخرى. إنه حراك العدالة،وحراك الإرادة لنبذ كل سفيه وفاسد وكذوب، من أية فئة كان. إنه حراك الضرورة التي لابد منها عاجلاً أم آجلاً. لقد أحسن «الحراك الوطني» صنعاً وفكراً ونطقاً، حين دعا فيبيانه الثالث، الى هبّة شعبية عارمة للانعتاق، تشارك فيها كل القطاعات الاجتماعية والمهنية،من طلاب ألهبت ظهورهم وظهور عوائلهم، سياط الرسوم الدراسة الباهظة، والخريجين الجامعيينالذين سُدت في وجوههم أبواب العمل، وأصحاب المحال الذين أرهقتهم مضاربات «أصحاب الفضيلة»،وسائقي السيارات الذين حشرتهم سلطة الأمر الواقع، بين تربحها من أسعار الوقود من جهة،وجباياتها في شكل «مخالفات» تعسفية من جهة أخرى. والأحزاب والفصائل والنقابات والأندية،التي أصابها الظلاميون بالشقوق وخنقوا عملها أو صادروا موجودات مكاتبها، لم تعد تحتمل.دعا الحراك، كل هؤلاء لأن يتجاوزوا حاجز الخوف، وأن يستعدوا للهبّة الشعبية، من أجلحياتهم ومستقبلهم وكرامتهم المستلبة. والحراك نفسه، ممثلاً في القائمين عليه، وطّدالعزم على الكفاح حتى الرمق الأخير «ضد قسوة الطغاة والجلادين الحاكمين في غزة» وأعلنوها«مرة واحدة» بأنهم «ماضون على طريق الحرية والعزة والكرامة» مستأنسين بثقتهم في شجاعةشعبهم!

إن شعباً مستلب الحرية في الداخل، يألم ويتأذى بأفاعيلذوي القربي، لن ينتزع حريته الوطنية العامة من براثن أعدائه، ولن يكافح الاحتلال منواقع الاستبداد ومن وضعية الرضوخ له. إن هذا هو الدرس الذي حفظه إخوتنا في سوريا عنظهر قلب، وهو نفسه الدرس الذي استوعبه أهالي قطاع غزة. فكل التحية لمبادرة «الحراكالوطني» التي نتمنى أن تتمأسس وأن تسري في أرجاء القطاع الصامد البطل، وأن يجري فيسياقها، الإعداد لهبّة الخلاص على طريق فلسطين الواحدة، الموحدة، المناضلة، المنتصرةعلى الظلاميين المحتلين وعلى الظلاميين المستبدين!