بقـلم/ محمد سرور

ما قدمته الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل من مساعدات مباشرة وغير مباشرة، منذ العام 1948 وحتى اليوم، يفوق الخيال، إذ تقدر نسبة المساعدات العسكرية بــ 60%، والاقتصادية بــ 40%. ناهيك عن المساعدات التي تقدمها الجمعيات الصهيونية والأميركية المؤيدة لها، بحيث يصل المجموع إلى حوالي 170 مليار دولار.

من الجهة الثانية، شكلت الولايات المتحدة، ومنذ وراثتها الإرث الاستعماري الأوروبي المظلة الاستراتيجية للدولة العبرية، ليس من خلال ما قدمته لها من مساعدات فقط، إنما مما تشكله ضمانتها العسكرية بعدم تعرضها لهزائم إستراتيجية، وعدم السماح بإحداث خلل استراتيجي على مستوى التسلح العربي أيضاً.

من الجهة الثالثة شكلت درعاً سياسياً وقانونياً لها في مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة، حيث الفيتو الدائم الجهوزية لمنع أي قرار إدانة أو اتهام ضد إسرائيل، وصولاً إلى إلزام الأمم المتحدة إلغاء قانون "مساواة الصهيونية بالعنصرية" مطلع تسعينيات القرن الماضي.

مقابل ذلك تجدر الإشارة إلى أهمية دور إسرائيل في الشرق الأوسط وامتداداً نحو المدى السوفياتي والروسي لاحقاً.

أهمية الدور الإسرائيلي تجلت أكثر بعد العام 1967 حين أصبحت تلعب دوراً مركزياً، مقابل الدور الذي كانت تؤديه قبل هزيمة العرب الجماعية.

ورغم ذلك، لم يكن الاعتماد الأميركي على الدور الإستراتيجي الذي تؤديه إسرائيل وحده هو الذي كرَّسها الحليف الأكثر حظوة في التاريخ الأميركي، لأن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة كان له ولم يزل الدور الحاسم في تثبيت منزلة إسرائيل الاستثنائية في عمق الضمير السياسي الأميركي.

هل تشكل إسرائيل فائدة دائمة للولايات المتحدة؟

يجوز الحكم نسبياً لصالح إسرائيل في ظل الوضع العربي الراهن غير المستقر لجهة خطورته وعدم وضوح معالمه المستقبلية.

لكن ما سبق يشكل جزءاً من السؤال. حيث طفا على سطح الواقع الاسرائيلي المسار العنصري غير المسبوق الذي يتزعمه نتنياهو، الذي يعتزم سن قانون دستوري يكرّس اسرائيل "دولة للشعب اليهودي" معتبراً -القانون- اسرائيل هي الوطن القومي "للشعب" اليهودي، وأن "الحق في تقرير المصير في إسرائيل هو خاص بالشعب اليهودي".

ويتابع نتنياهو مشاريع قراراته باعتبار "الشريعة اليهودية مصدر إلهام لتشريع القوانين في إسرائيل". ويضيف اللغة العبرية للدولة كلغة رسمية.

ما سبق يعيدنا إلى الحجة التاريخية التي اعتمدتها اسرائيل لتبرير اعتداءاتها وتملصها من الاستجابة لمتطلبات السلام في المنطقة. إذ وانطلاقاً من الواقع الراهن نستطيع أن نصدِّق كلام أوباما في القاهرة عن أن "إقامة دولتين- فلسطين وإسرائيل- تعيشان بسلام يشكل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة". بالطبع هذا التصريح قبل ان يبتلع الرئيس الأميركي مضمون تصريحه ولسانه معاً.

الولايات المتحدة ومنذ سنوات عدة تقوم بإعادة جدولة سياستها في المنطقة والعالم، لأن الثمن الذي كلفها إياه المحافظون الجدد- وعلى رأسهم الجمهوري جورج بوش الإبن- كان أفدح مما يتخيله عقل، وأعقد من أي تصور لإعادة عافيته. والأهم من ذلك أن كلفة المغامرات الحربية الكبرى لم تعد بأي استثمار تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد عليه مستقبلاً.. وصول الدين الأميركي العام إلى 16،7 تريليون دولار يعني رقماً يفوق التصور، مرفقاً بضمور اقتصادي وانحسار للقوة الشرائية في العالم.

الانكفاء الأميركي عن المنطقة والعالم جاء في الوقت الذي لم تعد الولايات المتحدة بحاجة إلى البترول الخارجي ووصول إنتاجها إلى مستوى الاكتفاء الذاتي. إذ ليس صدفة صدور أكثر من تصريح خليجي حول الحاجة إلى مظلة استراتيجية ولا هو صدفة حضور رئيس أركان الجيوش الأميركية جزءاً من القمة الخليجية مؤخراً.

لكن ذلك لا يخفي واقع إعادة رسم المنطقة الجيوسياسي، وعلى قاعدة هزيمة قادمة لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" من المنظار الأميركي. وهزيمة أيضاً لدول في المنطقة وضعت كل اوراقها في ميادين الحرب والتطبيل للتغيير الآتي وفق رؤية معسكرها السياسي.

نحن أمام واقع خارطة إيرانية جديدة تمتد حتى البحر المتوسط في جنوب لبنان- بالمعنى العملي للكلمة. نحن أم سياسة روسية حيوية ونشطة على مستويي سوريا وأوكرانيا.. فيما الأوروبيون والأميركيون حالهم يشبه حال الدب المربوط، لا حول له ولا قوة.

من هنا ينبغي إعادة طرح السؤال، بطريقة مختلفة: هل تتكامل أم تتعارض سياسة إسرائيل الحالية مع المصالح الأميركية؟

هل الجنون العنصري الصهيوني الحالي يضرُّ السياسة الأميركية ويعيقها أم ماذا؟

النقد اللاذع الذي وجهه مارتن أنديك للحكومة الإسرائيلية- رغم النفي الرسمي الأميركي له- لم يأتِ من فراغ ولا هو مجرد رد فعل على فشل المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إنما للمرارة التي تشعر بها إدارة أوباما شبه المفلسة على مستوى سياسة المنطقة.

فالذي بدأ يتكشف للإدارة الأميركية أن ارتفاع منسوب العنصرية الصهيونية لا يقتصر على الفلسطينيين والعرب فحسب، إنما يبدو أنهم لن يتورعوا عن وضع مصالحهم الشديدة الخصوصية في مقدمة أية حسابات أو مصالح أخرى، حتى وإن كانت المصالح الأميركية. لأن التسريبات "الرسمية" الأميركية التي اتهمت إسرائيل بالتجسُّس على الإدارة الأميركية لم تكن وليدة الصدفة، إنما جاءت في سياق علاقة متوترة- بالطبع لن تذهب بعيداً- إلا أنها ترفع منسوب الشكوك والتراكمات السلبية الممهَّدة لمستقبل غامض للعلاقات بين الطرفين.

مقابل ذلك لم تزل حكومة نتنياهو على إصرارها بتصويب الانظار إلى خطر الملف النووي الإيراني على العالم، وتدفع بشكل قوي باتجاه توجيه ضربة قوية للمنشآت النووية الإيرانية، فيما الحسابات الأميركية لا تراهن على الدبلوماسية فقط، بل على علاقات تطبيع وبالنقاط والمراكمة مع الحكومة الإيرانية، بصفتها إحدى الملفات في مسار جدولة السياسة الخارجية، بالأخص بعد تنامي قوة التيارات الإسلاموية التكفيرية المتشددة في أكثر من قطر عربي، والتي موَّلت ودعمت بالمال العربي الحليف للولايات المتحدة.

والأهم في هذا الصدد صمت الولايات المتحدة على اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وإعلان استعدادها التعامل مع الحكومة التي سوف تعلن قريباً- حسب مصادر المتصالحين- شرط اعترافها بشروط الرباعية الدولية.

فبحسب الاتفاق شبه النهائي سوف يتم الاعلان عن حكومة تنكوقراط لا تكلف حماس عناء التنازل عن شيء مما تعتبره "ثوابت" في سياستها، وبالمقابل سوف لن تشترط الولايات المتحدة على حماس ذلك، لأنها- الولايات المتحدة- معنية بحكومة الوحدة الوطنية كهيئة شرعية بقيادة الرئيس محمود عباس.

إذاً نحن أمام مشهد جديد للتركيبة الجيوسياسية للمنطقة، بدءاً من مصر وامتداداً إلى فلسطين- فسوريا ولبنان وليس انتهاء بالعراق، مقابل انحسار جدي وعميق للدول الراعية للحالة الاسلاموية المتطرفة، التي باتت تقترب من الإفلات من ضبطها وتوجيهها- سيناريو شبيه بمسار العلاقة مع الحالة البنلادنية- أي القاعدة بنسختها الأفغانية.

وما سبق يدخلنا أيضاً في معمعة التساؤلات حول الفوارق بين الإسلام الذي يعمل وفق ثقافة شبه الجزيرة العربية، والآخر المعمول به في دول إسلامية عريقة.

هذه الفوارق ليست غائبة عن بال مراكز الدراسات والبحوث في الإدارة الأميركية. وعلى أساس نتائج البحوث والدراسات يتم بناء الإستراتيجيات السياسية.

للدلالة على الأمر علينا ربط القرارات والقوانين السعودية التي صدرت بحق الذين يقاتلون في سوريا بالنتائج المذكورة. كذلك الانتباه إلى سياسة الحكومة القطرية ذات المنهج الأخونجي وتحولها السياسي من تأييد ودعم المتطرفين السوريين إلى الانفتاح على كل من سوريا وإيران. ودون أن نغفل بوادر الانفتاح الخليجي على إيران- زيارة أمير الكويت إلى طهران المقررة نهاية أيار الجاري- مثل آخر.

ورغم الحراك الواضع الدلالة على التحولات السياسية العميقة جراء عدم تطابق حساب البيدر مع حساب الفلاح في العديد من الأقطار العربية التي تسرَّعت في ركب دعم موجة التغيير بعدَّة جاهلية- ظلامية بائدة.

فهل ما يجري من رسم للخارطة السياسية العربية سوف يعيد ترسيم علاقات الدول- استراتيجياً- بحيث تكون إسرائيل لاعباً نشطاً في التركيبة الجديدة للعلاقات؟

يجب أن نؤكد على مسألة تفرد الولايات المتحدة كلاعب وحيد ومقرر- خاصة في الدول التي تدور في الفلك الأميركي تقليدياً، رغم الانكماش والابتعاد الأميركيّين عن التماس المباشر مع المنطقة، فهي لن تسمح بأي اختراق لنفوذها، أياً كان الفاعل، اللهم إلا إذا رأت أن من مصلحتها إضافة لاعب- شرط أن يكون تحت إشرافها وأن لا يفرض نفسه لاعباً موازياً ومساوياً لها.

مارتن أنديك لم يتحد بمسألة عدم تحميل الفلسطينيين أي خطأ في المفاوضات وأنهم لا يتحملون أية مسؤولية عن فشلها فقط، إنما ربط نتائج الفشل برئيس الحكومة الاسرائيلية ووزراء في حكومته يتعمدون تنشيط الأعمال الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية لإثارة ردود الأفعال حولها وبالتالي إفشال مساعي التسوية.

لا شيء تبلور حتى الآن على صعيد المنطقة، ويبقى السؤال الأهم: متى تخرج الولايات المتحدة من عزلتها الإختيارية- القسرية؟