تحقيق: سمية مناصري

خاص- مجلة القدس، وفي إطار إعادة بعث وتنشيط الذاكرة الفلسطينية الأصيلة التي شهدتها مخيمات لبناننستذكر المأساة المروعة التي تعرض لها سكان مخيم البرج الشمالي في 7/6/1982، نتيجةقصف الطيران الإسرائيلي المتعمد لملاجىء المدنيين الذي راح ضحيته في يوم واحد وخلالساعات معدودة نحو 125 من سكان المخيم من النساء والشيوخ والأطفال. لقد حاولنا تصويرمشهد الحرب في مخيم البرج الشمالي من خلال عدد من الشهادات اخترنا أصحابها من أهاليالضحايا المقربين أو الأشخاص الناجين القليلين ممن كانوا في الملاجئ والمغاور التيتعرضت للقصف.

 

كمال جمعة، فقدأطفاله الخمسة في المجزرة ولم ينج من عائلته سوى زوجته مريم. يحدثنا كمال قائلاً:"إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 استبسل الشعب الفلسطيني بالدفاععن المخيمات الفلسطينية، ورفضت المقاومة الشعبية الفلسطينية، رغم بساطة أسلحتها، الإستسلامللعدو بل قاومت الدبابات التي كانت تحاصر المخيم ودمرت ما يزيد عن 8 دبابات وقتلت العديدمن الجنود، مما أثار غضب الصهاينة وبدأوا بقصف عشوائي بالطيران واستهدفوا الملجأ الذيكان يأوي 96 مدنياً من أطفال ونساء وشيوخ، باستخدام القنابل الفسفورية الحارقة والصواريخالتي خرقت جدران الملجأ وانفجرت داخله حارقةً أجساد كل الموجودين. وقتها، أخبرني شخصبأنَّ زوجتي وأطفالي الخمسة قد استشهدوا داخل الملجأ، فذهبت باتجاه الملجأ ودخلت منالطاقة الصغيرة التي أحدثها الصاروخ. وفجأة سمعت أنين امرأة تطلب المساعدة، فحاولتالإمساك بيدها فسلخت من جسدها لشدة الحرق ولم أتمكن من مساعدتها. كانت زوجتي كثيرةالتشوه ومتفحمة، ولم يكن في المنطقة سوى طبيب واحد هو الدكتور محمود عطايا ليقوم بمساعدتها،لكنَّه لا يمتلك سوى المعدات البسيطة والأولية، ما استدعى نقلها إلى الصليب الأحمرفي صور والذي لم يتمكن بدوره من مساعدتها فنُقلت لأحد مستشفيات العدو الصهيوني في الأراضيالفلسطينية للعلاج وبقيت ما يقارب الأسبوعين، خلال هذه الفترة كانت تظن بأنها ستعودإلى البيت لترى وتطمئن إلى أطفالها ولكنَّ الصدمة الكبرى لها كانت عندما عرفت أنَّهافقدت جميع أطفالها وإلى الأبد، وبدأت المعاناة النفسية والجسدية تعصف بنا بعد ذلك.كنت أقف أحياناً مشدوهاً بحيرةٍ أمام منظر فدوى إبنتي يتراءى أمامي وهي تنادي بابابابا أنا بردانة؟؟!!! الله اكبر... ثوبها محروق وممزق والجسم أسود كالفحم ترتجف أماميباكية وقلبي يكاد ينفطر ماذا عساي أن أفعل غير ضمها بحسرة من القهر. أنين فدوى وفاديوفاتن، يحيرني خمسة أطفال أفقدهم وبلمح البصر يفارقونني وموقفي العاجز حينها أصابنيبالجنون. مات اطفالي الخمسة أمامي ولم أتمكن من فعل شيء على الاطلاق.

 

كمال حسن ذيب

مشهور بلقب المختاروقد ورث هذا الموقع الإجتماعي عن والده. فقد كمال في مجزرة ملجأ الحولة ما يقارب37 شخصاً من ذويه منهم زوجته وثمانية من أولاده وغيرهم من الأقارب. يستعيد كمال الذكرياتفيقول: "كنت أجلس عند الملجأ  قبيل حدوثالقصف، فطلب مني أحد الأقارب الماء، فذهبت إلى بيتي لأحضره وفي هذه الأثناء حدث قصفالملجأ. وقتها لم أرَ سوى لحم البشر يتطاير في السماء. صرخت بصوت عالٍ لقد مات جميعأولادي بالملجأ!! كان هناك البعض القليل جداً ممن بقوا على قيد الحياة يئنون من شدةالألم، فحاولنا إنقاذهم وإخراجهم خارج الملجأ ولكنهم كانوا يموتون مباشرة بعد تنشقهمللهواء أو شربهم للماء.لم  يكن أحد من عائلتيعلى قيد الحياة سوى إبنتي شما التي كان عمرها 18 سنة، ولكنَّها كانت تعاني إصابة بليغة،فعمل الصليب الأحمر على مداواتها غير أنَّها لم تتحسن، فنقلوها إلى الأراضي الفلسطينيةللعلاج في إحدى مستشفيات العدو، ومرَّت سنوات ولم نعرف عنها شيئاً حتى حصل تبادل فيفترة ما بعد العام2004، حيث أخبرونا بأن جثتها مع باقي الشهداء. وبعد إجرائنا لفحصالـDNA، تأكدنا بأنها هي شما، وعندما تسلمنا جثتها أقمنا لها جنازة رمزيةوأطلق أبناء مخيم البرج عليها إسم عروسة الشهداء وتمَّ دفنها في مقبرة الشهداء في البرجالشمالي".

 

نعمة مصطفى عبدالله

يروي لنا عبد اللهقصته مع المجزرة فيقول: "ليلة السابع من حزيران عام 1982 نقلت زوجتي وأولادي إلىملجأ مؤسسة جبل عامل. أسرعت إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل بحثاً عن أسرتي فقيل لي أنها انتقلتإلى ملجأ نادي الحولة.كانت الطريق إلى الملجأ مغطاة بركام الأنقاض ولم أعرف كيف وصلت،وحين نزلت إليه شاب شعري بمجرد أن رأيت المشهد، فقد كانت الجثث محترقة والضحايا عراةبعد أن احترقت ملابسهم. قالوا لي بأنَّهم نقلوا أختي إلى مستوصف من أجل إسعافها وأخبرونيباستشهاد أختي الثانية زينب". يتابع قائلاً: "فقدت صوابي ودخلت في نوبة طويلةمن البكاء. ثمَّ عدت إلى الملجأ للمساعدة في عملية الإنقاذ ورفعت طفلة عمرها ما يقاربالأربعة أشهر من على صدر أمها التي فارقت الحياة، وعندما لم يتعرف أحد على هذه الطفلةقلت في نفسي"خلص هالبنت إلي بربيها والله بيعوضني فيها"، لكنَّ  الطفلة ماتت بمجرد أن لامس الهواء جسدها. وفي صباحاليوم التالي قررت أنا وأخي نقل من بقي حياً من الأطفال إلى مقر الطوارىء في قانا علىأمل أن يتم إنقاذ أحد منهم. وعرفت فيما بعد عن طريق الصليب الأحمر الدولي، وكنت حينهافي معتقل أنصار، أنَّ الأولاد نُقلوا إلى مستشفى تبنين ولم يعودوا من هناك. فعدنا إلىالمخيم وأدركنا أنَّه لا بد من دفن الشهداء. وبعد دفن زوجتي وأولادي كدت أفقد صوابيفلم يعد لي أي شيء في الدنيا".

 

لمعات محمد طه

 هي الشهيدة الحية كما أطلقوا عليها، تستعيد ذكرياتهاثمَّ تنطلق لتروي لنا" كان عمري وقتها 13 عاماً. بعد ضرب الملجأ بصاروخين، لمأعرف كيف خرجت من الملجأ ولم أعرف أين أذهب فقد كان جسدي محروقاً وفيه تشوهات. مشيتمسافة قصيرة فنقلني أحد الأشخاص للإسعاف خارج المخيم ولكنَّ الصهاينة بدأوا بإسعافيبشكل أولي وأبقوني في الطريق ساعات طويلة لأنَّهم كانوا يطلبون من أبناء المخيم أنيسلموا أنفسهم. وبعد الإنتظار الطويل، نقلوني إلى مستشفى تبنين حيثُ بقيت للعلاج مدةإسبوعين، وبعدها تمَّ نقلي إلى الأراضي الفلسطينية للعلاج عن طريق نجمة داوود الحمراءالتابعة للعدو الصهيوني. حاول الصليب الأحمر زيارتي لكنَّ عناصر العدو منعوهم، بعدهاعملوا على زيارتي سراً، وبقيت هناك ما يقارب الشهرين، حاول الصليب الأحمر خلالها نقليإلى لبنان لكنَّ عناصر العدو رفضوا وكأنني في حالة اعتقال وليس فترة علاج .كنت أتألممن شدة الحروق والتشوهات التي كانت بجسدي، وطيلة فترة العلاج كان الصهاينة يضعون السلاحعلى رأسي ويعذبونني كثيراً، وأحياناً كانوا يضعونني بمفردي ويفتحون خرطوم الماء علىجسدي المحروق. وبعد أن أمضيت 20 يوماً في مستشفى العدو، فوجئت بشخصين أحدهما مترجموالآخر كان يحمل معه باقة ورد قدمها لي وأخبرني بأنَّه هو الطيار الذي قصف الملجأ وبأنَّهلم يعرف أنَّه يوجد داخل الملجأ أطفال ونساء. أخذت باقة الورد وضربته بها وقلت تقتلونناوتهدوننا وروداً، فصفعني على خدي بشكل مبرح، وبعد مضي شهرين من العلاج والتعذيب عدتإلى لبنان".

لم يقتصر قصف العدوعلى ملجأ محدد فهو قد شمل إلى جانب ملجأ نادي الحولة الذي سقط فيه 94 شهيداً، كلاًمن  مغارة حي المغاربة، ومغارة علي الرميض أبوخنجر، وملجأ روضة النجدة الإجتماعية. وتمَّ دفن معظم الشهداء في مكان الملجأ وانشاءنصب تذكاري في مكان كل ملجأ، كما أنَّ بعض الشهداء دُفنوا في مقبرة الشهداء مكان الجنديالمجهول.

إن الوقائع الجافةليس لها أن تصور تصويراً حياً نابضاً بالأحاسيس والمشاعر التجربة التي عاشها مخيم الشهداءمخيم البرج الشمالي خلال يومين من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. إنها تنبئنا بصورةتقريرية فقط بواقع التجربة من دون أن تجعلنا نعيشها حقاً مع من عاشوها، فهم عاشوا زمنالتجربة ونحن نعيش زمناً آخر... زمن ما بعد التجربة.